دليل المترجم لأعلى تركيز
بقلم داليا رشوان
نشرت هذه المقالة في مجلة أسرار عالم الترجمة، لمعرفة معلومات عن المجلة إضفط هنا
التركيز بالنسبة للمترجم رأس ماله. فقد يكون علم المترجم متواضع لكن مع قوة التركيز يستطيع أن ينجز عمله على الوجه المطلوب. لذلك فمن أهم مهارات المترجم، إلى جانب علمه بأصول الترجمة وقواعد اللغات التي يترجم منها وإليها، مهارة التركيز.
نمو واضمحلال التركيز
التركيز عملية عقلية، وكأي عملية عقلية إذا استخدمتها ووظفتها بشكل يومي تنمو، وإذا نبذتها تضمحل وتحتاج أن تبذل جهدا للعودة إليها بنفس القوة. كما أن مرونة المخ (neuroplasticity)، التي اكتشف العلماء بعض أبعادها مؤخرا، تؤكد أنه بالتدريب يمكن لشخص فاقد القدرة على التركيز أن يصل إلى مرحلة متقدمة بمجرد الإرادة والإصرار على المحاولة وتحمل مشقة صعوبة الأمر في البداية. ولكن إذا توقف الإنسان عن استخدام وظيفة التركيز مدة لأي سبب، يبدأ المركز الخاص بهذه الوظيفة في المخ بالضمور، تماما مثل العضلة، إذا استخدمتها تكبر وإذا توقفت عن استخدامها تضمر.
الإجهاد
الإجهاد سواء العصبي أو الجسماني هو أحد قتلة التركيز، بل أحد قتلة القدرات العقلية والنفسية والجسمانية بشكل عام. لذا يوصي الخبراء في مجال الصحة النفسية بإجبار الموظف للحصول على أيام راحاته السنوية، حيث أن استمراره المتواصل في العمل يؤدي إلى انخفاض في امكانياته الوظيفية وقدراته على إيجاد حلول لمشاكل العمل، بالإضافة إلى أن معظم حلول مشاكل العمل يصل إليها في فترة الاستجمام أثناء العطلة.
والإنسان المجهد يقل أداؤه وتكثر أخطاؤه وتطول الفترة الزمنية التي ينجز فيها عمل موكل إليه نسبة لإنجازه نفس حجم العمل وهو غير مجهد.
وللتغلب على الإجهاد يجب عمل فواصل راحة أسبوعية وشهرية وسنوية كنوع من إستعادة الطاقة وتجديد النشاط يتم البعد فيها عن كل ما يتعلق بالعمل والمشاكل والتركيز على الاسترخاء والقيام بنشاط محبب للنفس.
النوم
يتعامل المترجم مع النوم على أنه وقت ضائع علما بأن النوم هو من أهم أدوات التركيز التي يجب على المترجم توظيفها لتخدم حسن أداؤه وسرعة إنجازه.
أثناء النوم يقوم الجسم بعدة عمليات فسيولوجية الغرض منها إستعادة نشاط الجسم، منها إزالة السموم المتراكمة خلال اليوم نتيجة للحركة والعمل وإزالة آثار الإجهاد وتحسين أداء المخ بالكثير والكثير من العمليات العصبية الأخرى منها مسح كل المعلومات العشوائية التي ليس لها داعي لتسريع وظائف المخ. ويمكن تشبيه هذه العملية بما يفعله برنامج CCleaner على جهاز الكمبيوتر الخاص بك أو برنامج إزالة الـ Junk files من جهازك المحمول.
من وظائف النوم أيضا تثبيت المعلومات الضرورية في الذاكرة طويلة المدى.
وللأحلام التي يحلمها النائم دورا رئيسيا في إنجاز هذه العمليات، حيث اكتشف العلماء أن المصابين بمرض في المخ يتسبب في توقف الأحلام، يعانون معاناة شديدة وحياتهم تكاد تكون عذاب، حيث أنهم لا يستطيعون التفكير ولا التركيز ولا أداء أي عمل عقلي. فهم بالرغم من نومهم يشعرون أنهم لم يناموا ويستيقظون وهم مجهدون ذهنيا.
لذا أحب التأكيد على أن النوم، وخاصة العميق الذي يحلم فيه النائم، ليس وقتا ضائعا بل وقت تستثمره في تحسين أداءك في عملك. وبعملية حساب بسيطة تجد أن النوم الكافي الذي يصحبه سرعة في الأداء هو أوفر في الوقت والمجهود من قلة عدد ساعات النوم التي يصحبها ضعف وبطء في الأداء.
السكون
طبيعة عمل المترجم تجبره على الجلوس في حالة ثبات لفترات طويلة. لكن الله سبحانه لم يخلقنا لهذا الثبات، فجميع وظائف جسمنا تعتمد على الحركة والنشاط، لذا فإن الاستسلام لهذا السكون يؤثر سلبيا ليس فقط على التركيز ولكن على الحالة الصحية العامة.
حالة السكون تؤدي بالإنسان إلى التنفس أبطأ كثيرا من حالة الحركة. يعني ذلك دخول كمية أكسجين أقل للجسم. كما تقل ضربات القلب فلا يصل الدم إلى التفريعات الدقيقة للأوعية الدموية بشكل منضبط، ويحرم جزء من الجسم من تدفق الدم بشكل سليم.
أي أن قلة الحركة تقلل من الأكسجين الواصل للدم وتضعف وصول الدم إلى الأعضاء.
أول ما يتأثر بهذا القصور هو المخ، حيث تقل الدورة الدموية والأكسجين فيه، وتقل بالتالي قدرته على التفكير والتركيز.
معنى ذلك أن كفاءة المترجم ويقظته تعتمد على قدرته على مقاومة رغبته في الاستسلام لحالة الثبات التي تفرضها عليه طبيعة عمله.
ويستطيع المترجم أن يخطط لنظام معين يكسر به الثبات وينشط به الدورة الدموية. ولنقل أنه كل ساعة يقوم بتمرينات للبطن والظهر بشكل بسيط، سواء في مكانه وهو جالس أو واقف بالقرب من مكتبه أو مستلقي على الأرض لو كان يعمل في البيت. ولا يحتاج الممارس لهذه التمرينات مدة كبيرة، حيث أن دقيقة واحدة من التمرين القوي المصاحب بأثقال (دامبل) كافٍ جدا أو إذا كان التمرين متوسط القوة فقد يحتاج من 3 إلى 5 دقائق.
وسيظهر الفارق على الفور إن شاء الله وستسمح هذه الفواصل بوقت أكبر من التركيز المستمر، إضافة إلى الوقاية من أمراض أخرى مثل الجلطات التي قد تسببها كثرة الجلوس.
التشتت بالمشاكل
جزء من التركيز يضيع مع وجود المشاكل من حول الإنسان. هذه المشاكل هي جزء من حياتنا، ومن الصعب أن نقول أننا سننتظر حل المشاكل من أجل زيادة قدرتنا على التركيز، لأننا بهذا الشكل سننتظر طوال العمر دون أدنى تغيير.
الحل هو أن يتدرب المترجم على أنه بمجرد جلوسه للعمل على المشروع المطلوب منه أن يضع حاجزا عقليا بينه وبين كل من حوله ولا يسمح لنفسه إلا في التفكير في الترجمة التي أمامه.
مسألة قد تبدو صعبة لكنها فسيولوجيا مستندة على أساس علمي متاح للجميع. فما ذكرته هو جزء من وظيفة الفص الأمامي من المخ ولكننا لا نستخدمه ولا ندربه، فهو كعادة جميع وظائف المخ يضمحل إلى حين البدأ في استدعاءه مرة أخرى فينمو.
جزء من وظيفة الفص الأمامي أو الجبهي من المخ أنه عند وجود موضوع مهم للإنسان يقوم بقطع الاتصال العصبي ببقية وظائف المخ إلا ما سيستخدمه في إتمام هذا الشئ الهام، حتى يهيئ للإنسان المناخ المناسب لإنجازه. لذا، على سبيل المثال، تجد أنك أثناء انشغالك بموضوع ما قد يحدثك شخص قريب منك فلا تسمعه. مثال آخر نتذكر فيه قصص الصحابة رضوان الله عليهم، حين اضطر أحدهم لقطع رجله فرفض شرب الخمر الذي عُرض عليه كنوع من التخدير وركز في قراءة القرآن حتى لا يشعر بالقطع. هذا الصحابي استطاع أن يركز في القراءة تركيزا جديا (وليس كما نفعل نحن الآن) لدرجة أن الفص الأمامي للمخ لديه قطع اتصاله بمراكز إدراك أي مؤثرات خارجية بما فيها الألم.
وعودة للترجمة، ما أردت شرحه هو أن مخك لديه القدرة فعليا على الفصل بينك وبين الأحداث من حولك والمشاعر التي قد تنغص عليك عملك، كل ما تحتاجه هو تدريب هذا المركز ومع الوقت ستجد أنك بمجرد جلوسك للعمل انتهى أي تنغيص آخر.
نصائح عامة
وهناك كثير من النصائح البسيطة الأخرى أحب هنا أن أذكر بها وهي كالتالي:
– الجلوس في مكان هادئ.
– الجلوس في مكان مريح.
– اختيار العمل في أكثر وقت يكون الذهن متيقظ فيه، وليس بعد مهام تؤدي إلى استنفاذ الطاقة. وبشكل عام لو استطاع الإنسان أن ينظم يومه بحيث يستيقظ لصلاة الفجر ثم يبدأ يومه وعند الصباح ينام ساعة للقيلولة، فإن الوقت من بعد صلاة الفجر للصباح فيه بركة غريبة تشعر الإنسان أن الوقت طويل، ويكون التركيز فيه عالٍ جدا.
– تنظيم الوقت بحيث لا ينشغل الإنسان بالقلق حول أداء المهام التي عليه أن ينجزها ولا أي مهام أخرى.
– تجنب الأكلات السريعة (الدليفري) لأن سوء التغذية يؤدي إلى الإجهاد السريع وبالتالي فقدان الطاقة للعمل. أطباق الخضار التي يتم طبخها في البيت بسهولة وبساطة تعطي للجسم ما يلزمه.
تجنب تناول الأكلات المشبعة بالدهون بكميات كبيرة لأن زيادة الدهون في الطعام تعيق عمل المخ. والدهون لها أهمية كبيرة في جميع وظائف الجسم، لذا فالنصيحة هنا ليست عدم تناول الدهون ولكن قصدت تحديدا الإقلال من كمية الطعام في الوجبة التي تحتوي على دهون كثيرة – وليس تجنب أكلها – وهذا مصداقا لقوله تعالى “كلوا واشربوا ولا تسرفوا”. فعلى الرغم من فائدة الدهون إلا أن الإسراف فيها مضر، وجانب من هذا الضرر أثبتته الأبحاث على المخ وسلامة التفكير.