أطفال ومراهقون أم رجال أعمال
عندما كنت طفلة صغيرة كان الشتاء بالنسبة لي دراسة ومذاكرة وأحلام يقظة عن مشروعات العطلة الصيفية. أما العطلة الصيفية فكانت في سن صغيرة إنتظار برنامج الأطفال العقيم الذي كان يقدم على القناة الأولى أو الثانية المصرية واللعب مع صديقاتي من الجيران، وفي سن أكبر أضفت إلى ذلك نشاطات خاصة بالأعمال اليدوية من الخياطة بأنواعها والرسم والتلوين على القماش والزجاج وأعمال تصميم زينة للبيت من بقايا أشياء غريبة والقراءة وفي سن أكبر أخذت الفرق الرياضية من وقتي الكثير.
أما الآن
يقضي أبنائي طفولتهم بصحبة كمبيوتر متصل بشبكة الإنترنت 24 ساعة ولديهم أصدقاء من جميع أنحاء العالم يتحدثون إليهم دون أدنى عبء أو تكاليف وموبايل بكاميرا يتصلون بمن يريدون في لحظة ويصورون أفلام الفيديو الخاصة بهم، وتليفزيون موصل بدش يتابعون منه ما يبثه العالم دون بذل أي مجهود، بلاي ستايشن يضع تحت أيديهم ألعاب جذابة لا نهاية لها، وهم على هذا الحال صيف وشتاء.
هذين النموذجين يوضحان الفارق بين ملل الفراغ وملل الرفاهية. ملل الفراغ يدفعك للبحث عن وسيلة تشبع قدراتك في وسط بدائل محدودة فتجعل منك مبدعا. أما ملل الرفاهية فهو ملل يأتي بعد استنفاذ قدراتك الإيجابية بوسائل سلبية حتى لا يتركك إلا في حالة من الضياع من الصعب إنتشالك منها إلا بالقوة والتصميم وغالبا من شخص آخر يهتم بأمرك، أو بإبتلاء قوي صادم من الله لمن بقى لديه قلب ليستيقظ من غفلته التي غرق فيها.
والنتيجة
- فقد الأبناء القدرة أو الوقت للقيام بأي شئ جاد
- أصبحت قدرتهم على التحصيل ضئيلة
- كل ما حولهم يدفعهم إلى اللعب الكسول
- يجلسون أمام جهاز الكمبيوتر 24 ساعة
- يعانون من العصبية والإكتئاب والملل المتعلق بالرفاهية
- القيام بأفعال متهورة تدل على شعور راسخ داخلهم بالتحرر وفقد تام لإحترام السلطة الأبوية.
ماذا حدث؟
إنها ما أسميها
صدمة التكنولوجيا
لقد وجد الصغار أنفسهم في بيئة يعتمدون فيها على أنفسهم بالكامل ولا يحتاجون آبائهم إلا للدعم المالي وللمبيت (من وجهة نظرهم)، إنها خدعة التكنولوجيا التي أوهمتهم بذلك وساعد على تفاقم هذا الإحساس عدم تدارك الوالدين للمشكلة الحقيقية التي وجدت طريقها إلى نفوس الأبناء. لقد شعر الأبناء أنهم مستقلون لأنهم لا يشعرون بحاجتهم لأهلهم ولكنهم لا يعوا أن الإستقلال ليس “عدم إحتياج” بل هو “تحمل للمسئولية”.
الحرية والإستقلال يبدءان بقدرة على تحمل المسئولية يوظفها الإنسان لإتخاذ قرارات لترتيب حياته بشكل ملائم يوازن ما بين متطلبات الحياة وإحتياجات الإنسان نفسه، والطريقة الأمثل لذلك التوازن هي فيما أمرنا به خالقنا وهو أعلم سبحانه بكيفية تحقيق هذا التوازن، ومع ذلك فإن البالغين أنفسهم والمسئولين عن أسرهم وصلوا إلى نسب متفاوتة لحل هذه المعادلة، لكن الأطفال لم يحققوا منها شئ، لذلك يتمادون في الإغراق فيما تميل له أهواؤهم دون التفكير في أي وسيلة للتوازن لذا تسمى أفعالهم بسلوكيات صبيانية تحتاج إلى تقويم. ودور التقويم هنا أو بمعنى أعم التربية هي مساعدة الطفل على تحديد هويته ولفت نظره إلى حقوقه وواجباته تجاه البيئة التي يعيش فيها سواء الأسرة أو المجتمع وتعريفه بالسلبيات والإيجابيات من حوله.
اختصارا
هذه التكنولوجيا أعطت أطفالنا شعورا زائفا بالنضوج دون وجود أي ضوابط أو علم كافي بالحياة ينظم السلوك الذي فرضته
كيف دخل الآباء في هذه المتاهة؟
دخل الآباء في هذه المتاهة التي اقتحمت غالبية بيوتنا بشكل بطئ وخادع ولا يلحظه إلا من كان مهتما بتربية صحيحة لأبنائه، لا أن يعتبر أن التربية مجرد توفير الإحتياجات التي تُشترى بالمال.
في رأيي، هناك رد فعل تلقائي للإنسان تجاه مشكلة يعاني منها، فهو يضع كل تركيزه وآماله لحل هذه المشكلة، فإذا ظهرت أخرى أكبر منها سحبت التركيز من الأولى وإذا ظهرت الثالثة فعلت نفس الشئ. ومع الثالثة تنسى الأولى والثانية ويصبح كل طموح هذا الشخص هو حل المشكلة الثالثة لأنها الأكبر والأحدث وينسى أن هناك مشاكل أخرى. هو بذلك قد انحدر تلقائيا بطموحه وآماله من مستوى مثالي إلى مستوى أقل بكثير كل ما يسعى إليه هو حل المشكلة الأخيرة فقط.
نفس الشئ يحدث مع أبنائنا ذلك أنه كلما ظهرت مشكلة لدى الإبن ينزلق مستوى توقعات الآباء ومتطلباتهم في الأبناء لمستوى إزالة المشكلة الجديدة فقط، وذلك حتى يصل المستوى إلى أدناه ويصبح قمة طموحهم في الإبن أن لا يسبب لهم المشاكل، فإذا مر بعض الوقت في هدوء شعروا أن كل شئ على ما يرام بغض النظر عن مكان وجود ابنهم الشاب أو ماذا يفعل طالما أنهم لا يشعرون بمشاكل، فتُختصر التربية على حجب جبهات المشاكل بدلا من التصدي لها وتحمل بعض المسئولية وبعض المعاناة لحل هذه المشكلات الواحدة تلو الآخرى.
شئ آخر شائع وهو أنني إذا تحدثت عن الأبناء في عنادهم وعدم مساعدتهم لأمهم أو إحترامهم لها وجدت الجميع يرد في آن واحد “الجيل ده كله كدة” وتجد إبتسامة ساخرة ترتسم على شفتي جميع المحيطين إستنكارا لمثل هذا اللوم. لا أحد يريد أن يتلقى لوم أو يضطر لمواجهة مسئولية شاقة مثل تعديل سلوك أبناؤه. إنها مسألة تحتاج وقت وقوة تحمل وحسن تخطيط وإدارة. الغريب أيضا أنني حين أتكلم عن أسلوبي وتوقعاتي بالنسبة لأبنائي جاء الرد “حرام عليكي دول لسة صغيرين”. كيف يكون الأبناء في سن 14 و11 عام لايزالوا صغيرين؟ ومتى أربيهم إذن؟ عندما يتعدوا العشرين من عمرهم؟ وقتها سأعلمهم ما يجوز وما لا يجوز؟ وقتها سأقول لهم أنا والدتكم وعليكم أن تبرُّوني كما أمركم الله؟ للأسف نظل نظن أن الأبناء صغارا على التربية حتى يكبروا ويصبحوا غير قابلين لأي تغيير.
ما هو الحل؟
الحل يحتاج معالجة كل جانب من جوانب المشكلة على حدة كما يلي:
1- علينا إعادة شعور الأبناء بإحتياجهم للآبائهم وتحديد نطاق السيطرة وذلك على سبيل المثال بنزع هذه التكنولوجيا من بين أيديهم من آن لآخر حتى يترسخ داخلهم الشعور بأنهم لايزالون داخل حدود السيطرة الأبوية التي تتحكم في كل الأدوات التي تشعرهم بفقدان هذه السيطرة الأبوية.
2- سحب هذه التكنولوجيا منهم في فترات محددة بهدف خلق إشتياق داخلهم لأشياء بديلة ومفيدة.
3- مساعدتهم على إختيار المفيد بتوفير عروض لطيفة لقضاء أوقات بناءة مثل وضعهم في تجارب خاصة بسوق العمل سواء بشكل تطوعي أو شكل آخر يدر ربحا مثل صناعة أشياء وبيعها ولو على نطاق الأصدقاء لإتاحة فرصة كي يتعرف الإبن على لذة العمل والتربح من عمل اليد، أو لذة مساعدة الفقراء والمحتاجين.
4- علينا أن نعلمهم بهدوء ومنطق طاعة الآباء لأن ترك الأمور دون تدخل تعني أننا بأيدينا نعلمهم عقوق الوالدين، وذلك بشرح ما نفعله من أجلهم ومقارنتها بردود الأفعال المعادية التي نتلقاها منهم، فهذه الحوارات والمقارنات ليست فقط مفيدة لتعليمهم كيف يبرون آباءهم ولكن لتنشيط حس الشعور بالآخرين والإهتمام بهم والحرص على إرضائهم.
5- بعض الآباء يسأمون من تكرار بعض المطالب على أسماع أبنائهم ولكن هذه المسألة تحتاج للمثابرة فكثرة الإلحاح يؤدي إلى نتائج ولو بعد سنوات.
6- توضيح وجهة النظر الأبوية من جميع الجوانب فهناك من يقول لا دون إعطاء مبررات مقنعة أو مبررات على الإطلاق مع العلم أن شرح الأسباب قد تحث الطفل على الطاعة لأنه أصبح يعرف سلبيات وإيجابيات الموقف مما يزيد من ثقته في أبويه بعد أن عرف أنهما لا ينهيانه عن أشياء لمجرد التمتع بالسيطرة والقهر، كما أن شرح الأسباب يعطيه أساسيات القدرة على تحمل المسئولية وإتخاذ القرار لأنه في كل موقف يعيد سرد الإيجابيات والسلبيات التي إكتسبها لتحديد ما أفضل تصرف في الموقف الجديد.
7- الإكتئاب هو جزء لا يتجزأ من أعراض الضياع وفقد الهوية والهدف. وعلى الرغم من أنني أعرف أن غالبية الآباء لا يتاح لها الوقت الكافي أو الحالة النفسية التي تساعد على نقاش جاد مع الأبناء ولكن عليهم أن يستغلوا الأوقات القصيرة مع الطفل مهما كان عمره لمساعدته على تحديد إجابات عن سؤالين هامين: من أنا؟ وماذا أريد؟ “من أنا” سؤال يساعد الإنسان على تحديد هويته وإنتماءاته وما يحب وما يكره فيقبل نفسه على ما عليها أو يحاول تعديل عيوبه. “ماذا أريد” هو الهدف الذي سيوظف طاقته ووقته فيه وهو الذي سيدفعه ليس فقط للعمل بل للحياة. وكم من شبابنا لا يستطيع أن يرد على هذين السؤالين البسيطين ويعيشون يتخبطون داخل أي مفاهيم غريبة لسد حاجة نفوسهم للفت الأنظار سواء بطرق شرعية أو غير شرعية.