في زمن غير الزمن هل يصلح الدين؟
بقلــم داليــا رشــوان
هناك من يقول أن قيود الدين لا تصلح لهذا الزمن فنحن في عصر التكنولوجيا والزمن غير الزمن والمتغيرات اختلفت وقوانين الأزمان تختلف، وأقول نعم القوانين الوضعية للأزمان تختلف ولكن شرع الله واحد لا يختلف مع إختلاف الزمن، لأن القوانين التي يضعها الإنسان لنفسه هي قوانين وضعها من لا يعلم لمن لا يعلم عنه شيئا فيتغير الزمن ويظهر ما خفي عن من شرَّع فيضطر وقتها للتغيير، أما شرع الله فوضعه من يعلم العلم المطلق لمن يعلم عنهم العلم المطلق بما فيه ما لا يعلموه هم عن أنفسهم.
هناك متغيرات .. نعم
شكل ملابس المرأة يختلف لكن تظل شروط الحجاب واحدة الملبس الطويل الفضفاض الذي لا يصف ولا يشف ولا يكون لباس شهرة أو تشبه بالرجال ويغطي شعر الرأس وفتحة الرقبة والصدر إلى القدمين.
الأكل ودرجة الفقر وقيمة المال تختلف ولكن تظل نسبة الزكاة ومساعدة الفقير بقدر متغيرات الزمن على أي حال هو عليه قائمة ولها ثوابها.
تأثير التكنولوجيا قائم فأصبح الإستئذان للزيارة ليس عند طرق الباب ولكن بمكالمة على الهاتف المحمول “وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ“.
أصبحت الخلوة بين الشاب والفتاة أوسع بكثير من أن يجمعهما مكان بدون محرم لأن الفتاة في حجرتها داخل بيت أبويها وليس معها أحد تستطيع أن تختلي برجل في بقعة بعيدة من بقاع الأرض من خلال جهاز الكمبيوتر أو المحمول بالصوت والصورة.
حتى زمن قريب كان من المعروف أن المرأة يمكن أن يرى منها محارمها (ابنها وأخوها وأبوها وجدها… ) الشعر والرقبة وجزء من الذراعين والساقين أما في الزمن الذي انتشر فيه زنى المحارم والشذوذ يجب أن تتغير هذه الأمور لتصبح أكثر تحفظا بحسب قدر الفتنة.
كما نرى من الأمثلة التي سبقت أن التكنولوجيا زادت من الطين بلة، أي أن في زمن التكنولوجيا ليس من المطلوب حرية أكثر من أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، بل وجب كبحها أكثر لأن الفتن زادت وأصبح الإنحلال في متناول الجميع بلا مجهود يذكر وأصبح يقتحم البيوت المغلقة بغير استئذان وأصبح التحكم في سلوك الغير للتهذيب، على سبيل المثال الأبناء، أمرا مستحيلا.
ويتضح ذلك بوضوح إذا قلصت المقارنة وحصرتها في مرحلة زمنية أقل من عشرين عام في مثال صغير:
كان تحذير الأم لإبنتها من التعامل مع الأولاد أو إعطاء صورتها لإحدى زميلاتها حتى لا تصل إلى يد ولد بقصد أو بدون فيعرض سمعتها للخطر بأن يدَّعي أمام أصدقاؤه أنها صديقته وهذا أقصى خطر يهددها من وجهة نظر الأم وقتها.
أما الآن فالخطر أفظع وأعَم فيمكن لشاب أن يسجل بالصوت والصورة محادثة عادية مع فتاة ويعيد تركيبها لتتحول إلى أشياء مخلة بالآداب العامة تدمر حياة هذه الفتاة إلى الأبد، ومع ذلك تعرض الفتيات صورها بل تسجيل فيديو لها على الإنترنت لتكون مشاعا للجميع.
كان وقتها خطأ فتاة مع شاب وثقت فيه وهو ليس أهلا لثقتها يمكن أن يمر بالستر أما الآن فوسائل التكنولوجيا جعلت خطأً واحدا هو فعلا النهاية لها ولأسرتها بكاملها وكل من يتصل بها أو يتعامل معها.
طبعا هناك من سيقول لي “يااااااااااااه” إنت لسة فاكرة ده زمن راح وانقضى” والبقية الغير منطوقة لهذه الجملة هو “احنا دلوقتي بنعمل اللي احنا عايزينه مع أي واحدة”.
في أيامي كان البحث عن المواد الخليعة المخلة يحتاج لمجهود ولا يصل إلى الأيدي بسهولة مما يعطي لضمير هذا الإنسان فرصة ليعود لصوابه ويتراجع عن طلبه أما الآن فمن لا يبحث عن هذه المواد يجدها في كل مكان من حوله بل يهرب منها مرة وتسطو عليه مرة أخرى، هذا من لا يبحث، أما من يبحث فهو يدخل في دائرة الضياع وإدمان هذه المواد المرئية وبالطبع الأمر لا يقف عند هذا بل تلزمه مخدرات أو خمور لتهيئة المناخ المناسب، وهذه للأسف حقيقة حياة كثير من الشباب في العالم العربي، هذه هي الدائرة التي يحيا فيها: مخدرات – خمور – زنا. هل هذه حياة؟ الشاب أصبح لا يستمتع إلا بإلغاء عقله وإطلاق غرائزه؟ الشاب الذي يحيا مرحلة قمة العطاء البدني والعقلي لتقوم به الأمم .. هذه هي حياته؟
أقول لمن يطالب بالتحرر من القيود القديمة التي يفرضها الدين، هنيئا لكم هؤلاء الشباب، انتظروا أن يستفيقوا من سكرهم وهنئوهم على إنجازهم الرائع الذي دفعتموهم إليه!!
من يطالب الآن بالتحرر من قيود هذا الدين “القديم” – من وجهة نظره – ويريد أن يضع ضوابطه الشخصية “التي يراها تتماشى مع العصر الحديث” وإبعاد الدين عن نواحي الحياة المتعددة على أساس أن الدين مكانه المسجد أو المتدروشين وأن القرآن محله الأرفف وليس مقصده قانون عام لجميع نواحي الحياة والمعاملات اليومية بتفاصيلها الصغيرة والدقيقة، من يطالب بذلك ووجد من يستمع له ويبادر بالتحول إلى هذه الحرية المغلوطة هو في حقيقة الأمر قد أخل بنظام الكون الذي تستقيم معه ليس فقط حياة الفرد والمجتمع الإنساني بل أي حياة على ظهر الكرة الأرضية.
اختلت قوانين البشر فخرجت هذه الفئة عن التناغم الذي أوجده الله في الكون، هذه القوانين التي تجعل الشمس والقمر وجميع الكواكب من حولنا تسير في مدارها لا تخرج عنه يجعل الليل يتعاقب مع النهار وفق نظام دقيق لأنها تسير بقواعد الله الذي وضعها لها ولا تحيد عنه فهي ليست مختارة ولكن بإختياراتنا التي لا تتفق مع النظام الذي وضعه لنا سبحانه خرجنا عن مدارنا واصطدمنا ببعضنا وطغى بعضنا على بعض فسرقنا وقتلنا واغتصبنا وأصبح بعضنا تتعالى أصوات ضحكاته بالنصر على جثث بعضنا الآخر، تلك هي الحياة بقواعد وضعها الإنسان لنفسه وهو أول من تأذى بها بدليل، على سبيل المثال، إنقراض كثير من الحيوانات التي كان لها دورا في النظام البيئي مما تسبب في كثير من الأعراض المرضية على ظهر الكرة الأرضية كإنتشار الآفات الزراعية التي دفعت بنا لإستخدام المبيدات فأصبح طعامنا المزروع مسرطن ولوثت العوادم الهواء ولوثت مخلفات المصانع المياه ثم برزت ظاهرة الإحتباس الحراري وثقب الأوزون وانتشرت الأمراض التي تفترسنا ولا نجد لها حلا، ألم يلفت نظرك أننا كلما وجدنا دواء لمرض خرجت أمراض جديدة لا نعلم عنها شئ وحتى البكتيريا تمردت على المضادات الحيوية وأصبحت مقاومة لها لتعود بنا في القريب العاجل إلى زمن ما قبل اكتشافها ليتعرض الإنسان للموت من عدوى بكتيرية كان تنتهي بجرعة من الأقراص.
كل ذلك تسبب فيه شذوذ الإنسان عن قوانين خالقه التي وضعها له ليحميه من نفسه ومن الآخرين من حوله.
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) – الروم
هذه الظواهر أصبحت لا تهددنا فقط بمواجهة صعوبات في الحياة وتنغيص دائم بل أصبحت تهدد وجود البشرية على كوكب الأرض طبقا لتصريحات علماء البيئة في الغرب، وما كان ليحدث كل هذا إذا استطعنا أن نحافظ على التناغم الذي بيننا وبين الكون كله بالتسليم إلى خالقنا كما فعل جميع خلقه من غير المختارين.
وحتى نُغير مسار الكوارث التي يتنبأ بها العلماء لأهل الأرض في الأعوام القادمة بسبب الظواهر الكارثية التي يذيقنا الله منها ليرينا قبح خروجنا عن شرعه وقوانينه التي وضعها لنا، يجب علينا العودة إلى صوابنا والتركيز على الطريق الحقيقي للخروج من هذا المأزق.
ولا يعني ذلك أنني أطالب بإسلام جميع الناس قهرا ولك حين يلتزم المسلمون ويُسَيِّرون الدنيا بقواعد الله تسير الأمور بالإنسجام المطلوب في حفظ وأمن الله، وفي داخل محيط هؤلاء الملتزمون يقبل على الإسلام غير المسلمين من جميع التوجهات طالما انسجموا داخل هذا المجتمع. وهنا يظهر عدل الله ورحمته بالبشرية.
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107) – الأنبياء
قد يعتقد القارئ أنني أتحدث هنا عن دولة إسلامية ولكنني لا أقصد ذلك، إنني أرى أن واجب تطبيق قوانين الله تقع على المسلم الفرد في كل وقت، تطبيقه في بيته، أو في عمله، أو مع جيرانه وأصدقاءه وأقاربه أو في خلافاته مع الآخرين أو في الشارع أو في معضلة يواجهها…. أو في كل ما سبق وأكثر إذا استطاع أما إذا واجه صعوبات في إنفلات زمام الأمر من يده فليقم بقدر المستطاع، ولكن أنا واثقة أن الإنسان إذا حاول أن يقيم حدود الله وواجهته صعوبات وكانت نيته صادقة في ذلك فإن الله سيذلل له هذه الصعوبات ويعطيه فرصة إقامة الحق.
فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا (65) – النساء
قد تكون كلمة “قوانين” أو “شرع الله” ألفاظ قوية تعطي الإنطباع بقوانين تحتاج إلى تغيير تشريع دولة ولا يأتي على البال أن هناك الكثير والكثير مما لا يحتاج انتظار تغيير نظام دولة، مثل امساكك عن نقل كلمة بين زملائك للإيقاع بينهم وتدخلك للإصلاح بين زوجين ومساعدة أحد معارفك وسيرك في الطريق بحقه وكف أذاك عن الناس ومعاملة زوجتك وأبناءك بشرع الله، والقيام على الإصلاح في الأرض، ونشر الخير بفعل الخير، والإبتسامة في وجوه الآخرين، والرجوع عن إستحلال المال الحرام، وإعطاء كل ذي حق حقه، ووصل ما أمر الله به أن يوصل من روابط الخير بين الأهل والأقارب والأصدقاء، والإمتناع عن الغيبة والنميمة وتمني الشر لمن حولك، وعدم النظر لما في أيدي الآخرين والتركيز على ما في القدرات والمواهب التي خصك الله بها وتنمية القدرات العلمية الفردية والجماعية إن أمكن، وشغل الوقت بالعمل النافع ليس فقط في أوقات العمل الرسمية ولكن حتى في وقت الفراغ فهناك كثير من التسالي النافعة البناءة من أعمال يدوية إبداعية في مجالات لا حصر لها بالإضافة إلى الإرتقاء بالقدرات البدنية والجسمانية مع إنتقاء طيبات ما رزقنا الله به والبعد عن الخبائث التي تدمر صحتنا لنصنع جيلا قويا.
ولو لاحظتم اخوتي أن كل ما هو مطلوب منكم هو في صالحكم قبل أن يكون في صالح الغير، كل ما هو بأعلى يخلق منكم شخصيات ذات قدرات صحية وبدينة وعقلية وقلبية راقية، تستمتع بقدراتها في حفظ ورحمة وتيسير من ربها.
هذه هي الحياة .. نعم الحياة
وفي النهاية الإسلام ليس قيودا بل ضوابط تحميك من نفسك وتسمو بخُلُقِكَ وخَلقِك .. تحميك من غيرك وتحمي غيرك منك وتجعلك تسير مطمئنا .. أنت لم تُخلَق لتُشَرِع لنفسك ولغيرك بل خُلِقت لتسعى في الأرض وتقيم العدل والحق وتعمرها بتشريع مَن خَلَقَك.