الحياة أخذ وعطاء
بقلم داليا رشوان
الحياة أخذ وعطاء
…
هناك من يعطي بحذر وعيناه تسبقه إلى العائد
وهناك من يعطي بقدر ما يأخذ
وهناك من يعطي الكثير ليأخذ الكثير
وهناك من يعطي ولا ينتظر المقابل إلا من الله ولكنه يتأثر بسوء رد الفعل
…
أود في هذا الموضوع أن أوجه حديثي للفئتين الأخيرتين، فأنت تجد شخصا يعطيك الكثير لأن ظروفه تسمح بذلك ولكنه ينتظر منك أيضا الكثير ويُحبَط إذا لم تستطع أن ترد بالقدر الذي يريده.
الموضوع ليس محدود بفئة معينة فقد يكون نفس الشخص في موقف الآخذ أو المعطي بشكل تبادلي مع تغير أحداث الحياة وتقلبها ولكن المشكلة أنك حين تعطي تدفعك الطبيعة الانسانية أن تنتظر مقابلاً مساوياً وغالبا ما تكون النتيجة محزنة مما يثير احباطك لأنك لا تستطيع أن تفهم ما الذي حدث وكيف يكون هذا جزاءك.
هذه العلاقة قد تكون بين آباء وأبناء .. بين زوج وزوجة .. بين الأصدقاء والاخوة وعلى الرغم من اني سأتناول نماذج محدودة إلا أن الفكرة واحدة للجميع
مسألة العطاء بالنسبة للبعض هي متعة بمعنى الكلمة ورد الفعل المحبِط الذي يحدث يجبر هذا المعطاء على كبح جماح عطائه بشكل خاطئ لسوء تقدير منه للموقف مما يدخله في دائرة الاكتئاب والتشاؤم وفقد الثقة في الآخرين.
لكن هناك خطأ فعليا في هذه المعادلة لأن العطاء يحتاج لضوابط وأساليب حكيمة في التعامل به حتى لا ينقلب إلى الضد ويصل بنا الأمر إلى أن يكون العطاء سببا لأن نكره جميع من حولنا بدلا من أن يزيدنا حبا لهم، والوحيد الذي يمكنك أن تعطيه بلا أي ضوابط وأي تفكير وبلا أي حدود هو الخالق سبحانه أما البشر فالأمر يختلف كثيرا، وهذه ليست دعوة للتوقف عن العطاء بل هي دعوة للحكمة فيها حتى تستطيع أن تستمتع بهذا العطاء وأن تُمتع من حولك به إلى أن يشاء الرحمن.
المسألة ليست دائما في شخص من تعطيه، وليس معنى سوء رد الفعل أنه عيب في شخص من أمامك، الله سبحانه بحكمته خلقنا مختلفين، والعيب قد يكون فيك أنت لأنك حمَّلت من حولك أكثر من طاقتهم، وأعطيتهم أكثر من قدرتهم على الرد، وعاملتهم جميعا برؤية خاصة بك ولم تُقدر ظروف وطباع من أمامك، وربما يأتي ذلك بشكل تلقائي مع طباع هذا الزمن وهي التركيز على الاحتياج الشخصي وجعل جميع الأحداث المحيطة في اطار ضيق لا يخرج عن رؤية أنانية من زاوية واحدة بدلا من تقدير ظروف الآخرين، هناك من يقول “وأنا مالي بالناس اللي عايز يقبلني يقبلني زي ما أنا، أنا مش حأتعامل بشكل مختلف علشان خاطرهم”، ولكنك حين تهتم بالآخرين وتعلمهم كيف تتعامل معهم وتقدرهم أنت في نفس الوقت تعلمهم كيف يهتمون بك وبمشاعرك لذا فأنت أول المستفيدين.
في الصداقة
البعض ينظر للصداقة بمنظار إما أبيض أو أسود فإما أن الصداقة انقرضت وإما أن يكون لدينا الصديق الذي نعطيه أكثر مما يحتمل.
الصداقة علاقة بين اثنين من البشر تختلف متغيراتها مع اختلاف طباع هؤلاء البشر، وفي رأيي أننا أولا يجب أن نتعلم كيف نفهم الناس ونفهم احتياجاتهم من رؤيتهم الخاصة وليس من رؤيتنا نحن ثم نحكم عليهم ويتأتى ذلك بأن نسمع للآخر كثيرا ونتفاعل مع مشاكله ونتفهم نقاط ضعفه التي قد تجعل له ردود أفعال غير منطقية مع رؤيتنا ومنطقية جدا مع ظروفه هو، ومع فهم ذلك يجب أن لا نحمله أكثر من طاقته، بمعنى أنني لا أذهب إلى صديق محروم من شئ ما وآخذ رأيه في نفس الشئ في حياتي لأنه قد يسقط ضغوط مشاكله على رأيه في مشكلتي، وأكتشف في النهاية أنه لم يكن ينصحني بأمانة، لكن الموضوع لم يكن كذلك والأمر كان دون وعي منه لأنني لم أراع ضغوطه في هذا الأمر وطلبت منه أكثر مما يستطيع أن يعطيني .
إذا فهمنا الناس وفهمنا المنطلق الذي يتفاعلون به معنا سنكون أقل غضبا وأقل مراعاة لظروف من حولنا وليس فقط أصدقائنا، وهنا يمكننا القاء نظرة متعمقة في الحيل الدفاعية التي يستخدمها الجميع للتفاعل مع الحياة ولا يخلو شخص منها ولأنها كثيرة فهنا رابط لشرحها فقد تُغيِر الكثير من المفاهيم لدينا تجاه الآخرين
في الأمومة
إذا تحدثنا عن أم تتسم بالعطاء بلا حدود لأسرتها، هي تقوم بدورها بتلقائية شديدة، تعطي ولا تحرم، تساند وتضحي وتعمل ليل نهار من أجل أسرتها تأخذ من صحتها لتحرص على صحة أسرتها ولا تتخيل بأي شكل من الأشكال أن ما تفعله سيكون سيفا مسلطا على رقبتها وستنكوي بناره قبل أي شخص آخر، سمعت من الشكاوى الكثير ولكن بعد فوات الأوان وكان السبب “فيض العطاء.
عطاء الأم اللامحدود أو ما نسميه “الدلع” يؤدي إلى:
(1) اعتبار هذا العطاء حقا مكتسبا وشئا طبيعيا مما يؤدي إلى سوء الرد عليه وعدم تقديره وقد يمتد أثر هذا العطاء إلى عدم تعلم مهارات شكر الآخرين على خدماتهم على اعتبار “انه شئ عادي أن يخدمني الجميع وعطاء الآخرين شئ لا يلفت نظري لأنه عادي وليس مطلوب مني الرد عليه”.
(2) سلب الطفل قدرته على اتخاذ القرار مما يكون له آثار سلبية على نمو شخصيته التي ستصبح أبعد ما تكون عن شخصية قيادية وأقرب ما تكون لشخصية انقيادية.
(3) عدم نمو آلية مواجهة الشدائد والصدمات داخله بل وأكثر من ذلك وهو عدم نمو آلية كبح جماح الرغبات المحرمة، فالقدرة على أن أكبح جماح نفسي عن شئ أريده يتأتى من قدر من الحرمان في الصغر فيتعلم الطفل منه كيف يتغلب بسهولة على معاناته من شئ يريده ولم يأخذه.
ونصيحة للأم
أن تقف عند كل رد فعل سيئ من طفلها لفعل ايجابي قامت به منذ سنواته الأولى، وهنا يجب أن تصف لابنها ماذا فعلت من أجله وأنه قابلها بفعل معاكس لا يتفق مع ما قدمته، وأن ما فعله لا يستقيم كشكر لها، وتهدده أنها لن تعود للعمل الايجابي الذي فعلته من أجله طالما قابلها بسوء أدب.
نفس هذا الموقف لا تفعله مع المواقف التي تجمعها مع ابنها فقط بل تتابع تعامله مع والده وجدته والجيران وحتى مع زملاءه في المدرسة وتعلمه كيف يرد على عطاء الآخرين له.
وأما عن عطاء الأم فيجب أن تتعلم متى تعطي ومتى تحرم ومتى تبحث مع ابنها عن حل وسط حتى يستطيع أن يميز المجهود الزائد منها وحتى تذكره أن هذا المجهود الذي تبذله ليس الطبيعي فيعرف كيف تضحي أمه من أجله وكيف يرد لها الجميل ببرها حين تكبر.
هذا الكلام لن يأتي بنتائج مضمونة بعد أن يكبر الطفل ويعتاد أن يأخذ ولا يعطي، ولكن متابعته منذ السنوات الأولى يجعله يتعلم كيف يُقدر ما يفعله له الآخرون وكيف يشكرهم عليه ويبادلهم العطاء بعطاء، وليس عيبا أو أنانية من الأم أن تفعل ذلك لأنها المصدر الرئيسي للطفل الذي يكتسب منه سلوكياته وأخلاقه وهذه المسائل لا تحتمل العاطفية ولا العيب ولا المجاملات، وإن لم تُعلم الأم طفلها كيف يبرها فمن ذا الذي سيفعل.
في الزواج
وقد تغدق الزوجة بحبها ومواقفها الرائعة على زوجها ولا شعوريا هي تنتظر المقابل فعلى الأقل يكون المقابل الذي تنتظره أن تكون معاملة الزوج لها أعلى من الطبيعي تقديرا لما فعلته، لكن عندما نعود للحياة الواقعية، نجد أن مشاغل الرجل وطبيعته لا تمكنه من مجاراة هذا الإغداق المقابل، فيحدث الآتي بينهما:
يعتاد الزوج هذا الاغداق حتى يعتبره من طبيعة زوجته فيكون تأثيره عليه ورد فعله تجاهه أقل كلما مر الزمن وعندما تشعر الزوجة بهذا الفتور يقل حماسها فتتهم زوجها بالتقصير لأنه تَعَود على أعلى عطاء واِعتقد أنه من طبيعتها.
عندما تعطي الزوجة ولا تجد المقابل الموازي لعطائها تتهم زوجها بالتقصير معها مع أنه قد يعاملها بالقدر الذي يستطيع ويقدم لها كل ما عنده وهذا آخره، لكنها ترى أنه غير كافي في المقابل لأنها أعطت أكثر من حدود امكانيات من تعطيه.
وهكذا تتوتر العلاقة، دون تقصير حقيقي من أي منهما إنما هي طبيعة النفس البشرية
وما يفترض أن نقوم به في هذه الحالة هو:
أن تعطي الزوجة بقدر طاقة زوجها (طاقته في الاستجابة لها) أو أكثر قليلا حتى لا تتألم كثيرا حين لا يجاريها بنفس القدر من العطاء.
كما أنها لا تعطي بشكل مستمر دون توقف حتى لا يعتاد زوجها منها ذلك فيفتر رد فعله، ولكن تعود إلى طبيعتها مرة وتعطي مرة فيشعر أنها تقدم شيئا خاصا.
محاولة عدم الاستسلام لشكل الحياة الروتيني واحداث تغيير من آن لآخر لأن رتابة الأحداث تجعل الملل يتوغل في قلوب الزوجين مهما علا صوت الحب بينهما فالملل صوته أعلى بكثير ودوام التغيير هو الحل الوحيد لمقاتلة فايروس الملل. وأقصد بالتغيير هنا أشياء كثيرة في شكل الزوجة أو في أسلوب ادارتها لحياتها مع زوجها، وهذا الموضوع يتشكل على حسب ظروف كل بيت.
وفي النهاية
حقيقة الأمر أن العطاء في حد ذاته ليس الخطأ ولكن هي طبيعتنا البشرية التي لا تقدر النعمة إلا حين تُحرم منها والعطاء المستمر بلا انقطاع يصبح عادة وأي انخفاض في مستوى العطاء ولو لايزال أعلى من الطبيعي سيصبح في عيون المحيطين تقصيرا يستحق التأنيب ومع الوقت يضيع حق الأم في أي شكر وأي طلبات ولو معنوية في المقابل بل أحيانا يتحول عطاؤها إلى تطاول عليها من قبل بعض أفراد أسرتها لأن عطاءها تم فهمه على أنه تسفيه لشخصها.
والحل؟
أن تُعلم الآخر كيف يحترم عطاءك أحيانا وفي أحيان أخرى أن تعطي وتترك الفرصة لمن أمامك للرد على هذا العطاء، ولكن بشكل عام يجب أن لا تعامل الناس جميعا بنفس الأسلوب الخاص بك بل يجب أن تعرف من أمامك وتعطيه من شخصك ما يستطيع أن يتحمل وذلك بتقييم شخصيته وخلقه وقدراته ومنه تشعر بالأسلوب المناسب له والذي يجعله لا يسئ فهمك فيرد عليك بما لا تتوقعه أو تتقبله.
ولمن يعطي ولا ينتظر المقابل إلا من الله ولكنه يتأثر بسوء رد الفعل أريد أن أقول له كلمتين هامتين إن كنت أعطيت فلأجر من عند الله وقد أخذته واساءة الآخر لك لم تنقصك شيئا بل زادتك أجرا إذا صبرت، وما من أحد يظلم إلا والله له بالمرصاد وقد تكفل الله عنك بالرد المناسب على من آذاك وبناءا على ذلك فإن تأثرك بمن يسئ اليك ليس له أي معنى.
كلمة أخيرة
من يعطي كثيرا ينتظر كثيرا فإذا أعطيت لبشر اعلم أن الجزاء محدود ومحدود جدا أما إذا أعطيت لخالق البشر فإن الجزاء بلا حدود