الخلوة
وسط زخم الأبناء والعمل والأسرة والزيارات والمسؤوليات والإحباطات والكثير والكثير من الأحداث، يفتقد معظم الناس لحظات ساكنة لأنفسهم يفكرون ويتأملون في هدوء، يراجعون أحداث يومهم بشكل دوري منتظم.
كثير من الناس حياتهم في اتجاه واحد، فهم مجرد رد فعل لما يدور حولهم من أحداث، إما يستغرقون في التفكير للرد على ما يفعله الآخرون وما يجد من أحداث تؤثر عليهم، أو يحولون المعلومات والانفعالات في ذات الوقت “من بره بره” كما نقول، أي رد فعل سطحي لموقف دون أن يمر على عقولنا من أصله، حتى بلغت السطحية في بعض الأحيان أقصى مداها حتى يفقد الإنسان حقيقة دوافعه أو أفكاره ولا يعرف ماذا يفعل ولماذا يفعله ولماذا لا يفعل شئ تجاه ما ألم به، فيرى هو شخصيا نفسه بنفس الوجه المصطنع الذي يراه الناس به؛ ترى أحدهم يكذب ويظل يردد على مسامع الناس أنه من أصدقهم حتى يصدق نفسه ويصدق كذبه بعد أن فقد لحظات يخلو بها بنفسه ليواجه حقيقته وكأنه يحرم ضميره طريق العودة.
هناك آخرا يعيش بين الناس ويظهر لهم أنه سعيد وهو يصطنع حتى يقتنع أنه سعيد وهو في داخله ألم، وكل ما فعله أنه أخفاه، لم يقبله ولم يتعامل معه ولم يتخذ إجراء لحله، فقط أخفاه، فيظل ينخر في جسمه ويتداعى هذا الشخص وهو لا يعرف السبب لأنه ظل يخفي السبب حتى لم يعد يعرف أين يجده عند الأزمة ليتعامل معه.
بطبيعة الإنسان أنه يرسم صورة لنفسه أمام الآخرين تختلف إلى حد كبير عن صورته الحقيقية الداخلية التي تمتلئ بدوافع وأحاسيس ومخاوف ونقاط ضعف تؤثر عليه. ولكن مع فقدانه للحظات ساكنة يسترجع فيها الأحداث مع نفسه تجده يتوه مع هذه الشخصية المفتعلة ويصدقها.
هذه الحالة تنذر بكارثة لأن هذه المراجعة التي افتقدها تعزز من النفس اللوامة وتخمد النفس الأمارة بالسوء، أما تصديق الصورة الكاذبة التي افتعلها بلا أي رغبة في التغيير للأحسن فهي تعلي من النفس الأمارة بالسوء حتى يفتقد الإنسان القدرة العقلية على نقد نفسه ورؤية خطؤه فيغرق في ذنوبه.
الحياة في هذا الصخب دون لحظات ساكنة مع النفس تملؤه فورا المشاعر سلبية ويغمره الاكتئاب دون معرفه السبب لذلك. قد يصبح كل شئ سطحي حتى الدين، وتصبح العبادات مجرد تصرفات معتادة ليس فيها روح، ويظل الإنسان في حالة سقوط في بئر ليس له قاع، لذا كانت عبادة التفكر عبادة عظيمة.
في الحياة الأسرية إضافة إلى الحياة العملية، كثير من القرارات المصيرية التي يضطر الإنسان لأخذها تحتاج خلوة وسكون مع النفس بعد عدة استشارات ممن هم موثوق بهم، وذلك للدراسة وتحديد الأولويات وتقييم العواقب والاستعداد لتحمل مسؤولية أي عقبات، ولن يتم ذلك إلا في هذه الخلوة.
وسواء في الحياة الأسرية أو الحياة العملية، كثير من الأزمات تحتاج إلى تقييم حقيقي وتخطيط دقيق لتجاوزها بأمان، وإعداد خطط بديلة لأي عواقب يمكن أن تحدث نتيجة للحلول أو القرارات المتخذة، وعلى الرغم منأن جزء أساسي من هذا الإجراء يحتاج مشورة الناس، إلا أن التفكير في هذه المشورة وانتقاء المناسب منها يحتاج خلوة مع النفس حتى لا ينساق الإنسان مع أفكار من حوله بعيدا عن احتياجاته الشخصية وما يناسبه.
وإذا كنت تخشى أن تواجه نفسك وتجلس معها في خلوة تعيد النظر في جميع أفعالك فلديك مشكلة، لأنك لو كنت في حالة تصالح مع نفسك لما خشيت أن تواجهها، ولذلك تداعيات سلبية على نفسك على المدى الطويل.
قد يكون لديك مشاكل تؤلمك وقد تعاني من مخاوف أو شعور بأزمة مع ضميرك أو تشعر بالمسؤولية تجاه كارثة تسببت فيها أو تظن ذلك أو تشعر بعجز أو تعاني من أزمة في حياتك لا تستطيع أن تخرج منها أو تقصير تجاه حق تعلمه ولا تريد أن تعترف به …إلخ. مئات الأسباب التي قد تؤرق نفسك وتؤثر عليك إن لم تجلس مع نفسك وتعترف بها وتأخذ أي إجراء قدر المستطاع لحلها.
أيا كانت مشكلتك فالخلوة التي تصارح بها نفسك ستساعدك على حسم الأمر بعيدا عن سيطرة الآخرين وصخب أحداث الحياة وهروبك من نفسك.