من أخلاق النبي: الحوار وقبول الاختلاف مع الآخر
بقلم هاني مراد
الحوار والاختلاف مع الآخر، أمر حتمي، تفرضه طبيعة الحياة. وبما أن الحوار عبارة عن علاقة مباشرة بين طرفين أو أكثر، تقوم على التعبير وتبادل الأفكار والحجج والبراهين بهدف التواصل والإقناع أو التأثير، فمن الضروري أن يؤدي هذا الحوار إلى شيء من الاختلاف حول بعض الأمور وطرق تناولها. علاوة على أن هذا الآخر ربما اختلفت بيئته عن بيئتك، وثقافته الاجتماعية عن ثفافتك، مما يستوجب نوعا من التعايش وقبول الآخر، وقبول الحوار والتعايش معه، طالما أن هذا التعايش لا يمس شؤون العقيدة أو الثوابت الدينية.
والنبي صلى الله عليه وسلم بمنهجه الواضح في هذا الشأن، وضع لنا قواعد الحوار ومنهجية الاختلاف مع الآخر، وضرب لنا أروع الأمثلة على التعايش مع الآخر، حتى ولو كان على غير دينه، وحتى لو اختلفت عاداته وتقاليده عما نشأ عليه النبي من عادات وتقاليد وأعراف.
واختلاف الرأي حدث على عهد النبي، فتعامل معه النبي بأفق متسع، وذلك حين قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: “لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة.” (رواه البخاري). فخرجوا رضوان الله عليهم من المدينة إلى بني قريظة وحان وقت صلاة العصر، فاختلف الصحابة؛ فمنهم من قال: لا نصلي إلا في بني قريظة ولو غابت الشمس لأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال: “لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة.” فنقول سمعنا وأطعنا.
ومنهم من قال إن النبي، عليه الصلاة والسلام، أراد بذلك المبادرة والإسراع إلى الخروج، وإذا حان الوقت، صلينا الصلاة لوقتها. وعندما بلغ ذلك النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يعنف أحداً منهم، ولم يوبخه على ما فهم.
هذه الحادثة من شأنها أن تترك في نفوس ذوي الألباب أثرا عميقا نحو قضية قبول الاختلاف مع الآخر عند النبي، وأن الحوار لا بد وأن يكون مفتوحا، وأن يتعامل معه الناس بعقل متقبل لأطر هذا الاختلاف.
فالنبي – صلى الله عليه وسلم – لمّا علم بما حدث، أقر الفريقين على فعله، ولم يعاتب أحدا منهما.
والرسول يعلمنا بذلك التعامل مع الهدف بحكمة، وباستقلالية في الوسيلة طالما أنها لا تتعارض مع أحكام الشريعة.
والرسول ينهانا عن التمسك بنوعية الحوار المبني على الرأي مسبقا، لأنه سيكون حوارا عقيما، لا جدوى منه، وذلك في قوله: “إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك نفسك.” (رواه أبو داود).
وهذا الحديث، رغم أنه توجيه لنا بعدم الحوار مع من يعجبون بآرائهم ويرفضون التحاور مع الآخر، إلا أنه في الوقت ذاته، توجيه لنا بعدم التشبث بآرائنا، ما دام هناك مساحة للتفاوض مع الآخر والحوار والنقاش معه.
وإذا كان النبي يعلمنا قبول الاختلاف مع الآخر والحوار معه وعدم الخضوع لأي نوع من التعصب لأفكارنا، فإنه يعلمنا كذلك ما هو أعمق وأشمل. فالأمر لا يقف عند حدود الاختلاف، فالحياة أرحب من ذلك، بل هناك التعايش مع الآخر وقبول أعرافه ما دامت لا تتعارض مع ما يفرضه عليك دينك. ونحن من خلال حديث الأحباش، يمكننا أن نلمس هذا الجانب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فها هو يعلمنا احترام تقاليد وأعراف البيئات الأخري المحيطة بنا.
جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها – رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد فزجرهم عمر رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “دعهم، أمناً بني أرفدة.” يعني من الأمن.
هذه الطريقة في اللعب، والتي كان يلعب بها الأحباش تخالف طرق العرب، إلا أن النبي لم ينههم أو يزجرهم، بل تعايش معهم، وتقبل هذا العرف منهم، وتركهم يمارسون ما اعتادوا عليه بمنتهى الحرية، وبصدر رحب، وبقبول لهذا الأمر.
ولقد كان من طبيعة النبي، الانفتاح على الأمم الأخرى، والأخذ منها بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة. فلقد وافق على رأي سلمان الفارسي بحفر الخندق في غزوة الخندق، رغم أنها خطة فارسية، لم يعتدها العرب من قبل، ولم يسمعوا عنها.
وربما تعاف نفسك بعض الأمور التي اعتادتها ثقافة معينة، فيرفضها عقلك تماما، وتتعامل معها بنفور، وربما امتد تأثير هذا الأمر عليك، فيجعلك تفرض رأيك على من حولك وترفض الحوار في هذه النقطة تحديدا. ولكن النبي يرفض هذا الأسلوب في التعامل مع مجريات الأحداث من حولك، ويرفض أن تتعامل مع البشر من حولك بفرض ما تقبله نفسك على الآخرين.
لقد كان خالد بن الوليد من محبي أكل الضب، وقدمه ذات يوم للنبي، فلم يأكل النبي، ولم يمنع خالدا من أكله، بل ترك له حرية فعل ما يحلو له في ذلك الأمر، كما أنه تعامل بذوق في هذا الاختلاف حيث بيّن لخالد أسباب عدم أكله له، حتى لا تأخذ الأفكار بخالد نحو طريق من شأنه أن يجعله يترك ما اعتاد عليه وأحبه.
ورد في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن أكل الضب، فقيل له أحرام هو؟ قال: لا، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه.
بذلك، نجد أن النبي لم يحرم ثقافة الأفراد والبيئات، وإن كان هو رافضا لها من الناحية النفسية، طالما أنها لا تخالف الدين.
والنبي تعايش مع ثقافات مختلفة ومع نوعيات وعقائد مختلفة بصدر رحب ودون أي محاولة منه للمسّ بهذه الثقافات. ومن أمثلة ذلك، تعايش النبي مع اليهود، حيث عاش النبي معهم منذ قدومه إلى المدينة المنورة بكل سلام، وكان يعاملهم بأخلاق الإسلام، فيزور المريض منهم، ويتحمل إساءة الجار اليهودي، ويقوم لجنازة رجل يهودي.
روى الإمام البخاري من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت عليه جنازة يهودي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم لها، فقيل له: إنها جنازة يهودي فقال: “أليست نفساً؟” (صحيح البخاري: 1312)
عن الكاتب
مترجم محترف ومراجع ومدير ترجمة، عمل في مصر وخارجها، وكاتب لمقالات الرأي. ترجم العديد من الكتب والدراسات الإنجليزية إلى اللغة العربية، في مجالات مختلفة.
حصل على درجة الليسانس في اللغة العربية، وأخرى في اللغة الإنجليزية. عمل في مصر في مجال تعريب برامج الكمبيوتر، ثم عمل لعدة سنوات خارج مصر.
عمل مديرا لقسم الترجمة بجريدة الشرق الأوسط الدولية التي تصدر من لندن. كما شارك في تأسيس مؤسسة “دار الترجمة” للتعريف بالإسلام بمختلف اللغات، وعمل مديرا لقسم الترجمة العربية بها.
ألف بحثا عن فن الترجمة، وآخر عن سيرة النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، كما شارك في تأليف كتاب عن الكتابة التجارية باللغتين العربية والإنجليزية.
يعمل حاليا في مجال الترجمة والمراجعة، ويقدم خدماته للعديد من الشركات والمؤسسات العربية والدولية.
يمكن التواصل عبر البريد الإلكتروني: hanymourad2@yahoo.com