شخصية سيجما والاختراعات النفسية الحديثة: قراءة في الظاهرة من منظور نظام البناء العصبي الوراثي للشخصية
هروب من الفراغ التفسيري أم بدائل وهمية؟
عندما يعجز العلم… تبدأ الأساطير
مع اتساع النقاشات حول علم النفس على منصات التواصل الاجتماعي، برزت تسميات مثل “شخصية سيجما” و”ألفا” و”هيوكا” كمفاهيم شعبية تستند إلى ملاحظات مجتزأة وسرديات شبه فلسفية. تُقدَّم هذه الشخصيات كأنماط سلوكية ثابتة، تُستخدم لتفسير جاذبية بعض الأشخاص، أو تفردهم، أو انعزالهم الاستراتيجي عن المجتمع. ورغم عدم وجود أي أصل علمي لهذه التسميات في الطب النفسي أو علم النفس الأكاديمي، فقد وجدت رواجًا كبيرًا لأنها تملأ فجوة حقيقية في الفهم لم تملأها التصنيفات التقليدية مثل DSM أو MBTI.
لكن الحقيقة الأعمق التي يتجاهلها الكثيرون هي أن ما يُسمّى بـ”شخصية سيجما” أو “هيوكا” ليس ظاهرة غامضة تحتاج إلى اختراع مفاهيم جديدة، بل تركيبات عصبية وراثية معروفة ومُحددة بدقة داخل نظام البناء العصبي الوراثي للشخصية، والذي يُعيد صياغة فهم الشخصية البشرية من جذورها، بناءً على تفاعل أنماط عصبية أصيلة.
لماذا تظهر مفاهيم مثل “سيجما” و”هيوكا”؟
تنشأ هذه المصطلحات من خارج الأطر العلمية، وتستند إلى:
- ملاحظات سلوكية سطحية لأشخاص يظهرون خصائص غير تقليدية (انعزالية، ذكاء داخلي، سيطرة خفية).
- غياب التفسير العلمي البنائي: لا يوجد في DSM أو MBTI تصنيف يدمج بدقة بين الحدّية الذهنية، والنرجسية الاستراتيجية، والمعادية التمردية أو الارتيابية الحذرة.
- حاجة الناس لتسمية ما لا يُفهم: حين يعجز النظام النفسي السائد عن توصيف نمط سلوكي دقيق، يظهر الخطاب العام ليملأ هذا الفراغ بمصطلحات سهلة التداول.
- الرغبة في التميز أو الانتماء لنخبة نفسية: يجد البعض في هذه المسميات وسيلة لتأكيد الذات أو فهمها خارج القوالب السائدة.
لكن هذا لا يعني أن “سيجما” أو “هيوكا” اكتشافات جديدة، بل هي أسماء مستعارة لأنماط نفسية عميقة مفهومة داخل النظام العصبي الوراثي للشخصية.
ما هي الشخصية الحقيقية خلف هذه الألقاب؟
“سيجما”
تُقدَّم هذه الشخصية على أنها:
- مستقل تمامًا عن المجتمع.
- يملك ثقة هادئة دون حاجة لإثبات نفسه.
- يرفض التبعية والسطحية والضجيج الاجتماعي.
- يراقب من بعيد، ويتحرك عندما يشاء، ويسيطر دون صخب.
في نظام البناء العصبي الوراثي، هذه السمات قد تمثل تركيبات طبيعية متعددة أبرزها نرجسية معادية ارتيابية:
- النرجسية تمنحه التخطيط والثقة والثبات.
- المعادية تجعله متمردًا بطبعه لا يقبل السيطرة.
- الارتيابية تجعله حذرًا لا يمنح ثقته بسهولة، ويرصد التفاصيل بدقة.
- هذا النمط لا يختار العزلة لأنه ضعيف اجتماعيًا، بل لأنه يرى أن الآخرين لا يستحقون الانخراط معهم إلا وفق قواعده.
“هيوكا”
مستوحاة من شخصية “هوتارو أوركي” في أنمي Hyouka، وتُوصف بأنها:
- هادئة ومنعزلة ومحللة، لكنها ليست منهزمة.
- لا تفعل إلا ما ترى فيه فائدة أو إثارة ذهنية.
- لا تُبدي انفعالًا اجتماعيًا لكنها ذكية للغاية.
وفي نظام البناء العصبي الوراثي، تنطبق على عدد من تركيبات الشخصيات ومنها حدية نرجسية معادية:
- الحدية تمنحها ذكاء عاليًا وتحليلًا داخليًا دقيقًا.
- النرجسية تمنحها الثقة بالنفس والاختيار الذاتي.
- المعادية ترفض القوالب والإجبار الاجتماعي وتتمسك بقرارها الشخصي.
- هنا لا يعود السلوك غامضًا أو أسطوريًا، بل نابعًا من بنية واضحة يمكن فهمها والتعامل معها.
مشكلة المسميات الشعبية: سحر بدون معرفة
رغم أن مصطلحات مثل “سيجما” أو “هيوكا” تبدو جاذبة وسهلة التناول، إلا أنها تحمل مشكلات حقيقية:
- تُكرّس الانعزال دون تفسير: فالشخص يُبرر سلوكه دون فهم احتياجاته العصبية أو ما يُنغّص عليه حياته.
- تغفل تعقيد الشخصية: بينما الشخصية ثلاثية في أغلب الحالات، تختزلها التسمية في فكرة واحدة.
- لا تقدّم مسارًا للنمو: فهي توصيف سطحي لا يشرح كيف تتطور الشخصية أو تُدار.
- تزيد الشعور بالانفصال عن المجتمع دون فهم بنّاء.
ما الذي يضيفه نظام البناء العصبي الوراثي؟
نظام البناء العصبي الوراثي يتفوق على كل من DSM وMBTI والمفاهيم الشعبية لأنه:
- يعتمد على بنية عصبية حقيقية وليس على سلوكيات مرصودة فقط.
- يشرح التكوين الثلاثي (أو الثنائي) للشخصيات بدقة، ويُظهر كيف تتفاعل في المواقف.
- يعيد تفسير ما يبدو “تمردًا” أو “انعزالًا” أو “تفردًا” على أنه ناتج عن تركيبة وراثية معقدة لا خيال ثقافي.
- يمنح أدوات للفهم والتعامل، وليس فقط التسميات.
خاتمة: من “الرمز” إلى “التحليل”
ما يُعرف اليوم بشخصيات مثل “سيجما” أو “هيوكا” ليس اختراعًا نفسيًا، بل حيلة شعبية لمواجهة العجز التفسيري في النماذج التقليدية. أما في نظام البناء العصبي الوراثي، فكل هذه السمات مفهومة بدقة، وتُعتبر نتيجة متوقعة لتركيب نفسي وراثي معقد. ليست هناك أسرار، بل علم ينتظر أن يُفهم ويُطبق.
الحل ليس في اختراع شخصيات أسطورية، بل في العودة إلى الجذر العصبي لبنية الإنسان، وفهم ما يحركه من الداخل، دون إسقاطات أو تزويق.