هل لمشاكل الدنيا حلول؟
بقلـم داليـا رشـوان
من غير المنطقي أن نحكم على ظروف آخرين ونحن نفكر في بيئتنا واحتياجاتنا الشخصية.
مثال: أنا أحب وجبة التشيزبورجر، من غير المنطقي أن أرى عائلة فقيرة وأذهب فأتصدق بوجبة من التشيزبورجر ولكن المنطقي أنني بثمنها أتصدق بأكياس من الرز والبقوليات والسكر والزيت (هذا المثال حدث بالفعل)، فهذه العائلة ليست مأساتها أنها محرومة من هذه الأكلات، فهي لا تعرفها أصلا، ولكن كل ما يتمنوه هو أساسيات الطعام التي ستضفي على حياتهم سعادة وبهجة أكثر.
هذه العائلات ليست مشكلاتها في لبس شيك ولكن ملابس تقيهم من برد الشتاء ولو كانت قطعا يلفونها على أجسادهم، مشكلاتهم ليست مثل مشكلاتنا ولا نستطيع أن نحكم على الآخرين إلا بعد أن نوحد المتغيرات التي تحيط بنا وبهم حتى نفهم احتياجاتهم.
أريد من هنا أن أصل إلى مسألة لا نستطيع إدراكها، وهي أن الله بعدله سبحانه جعل الدنيا متساوية علينا جميعا، كلٌ حسب قوة تحمله، ليبقى ضغط الحياة علينا جميعا في النهاية سواء.
أول ما سأُقابل به هو أنني الآن أساوي بين الفقراء المعدمين ومن يسكنون القصور، ولكن كلامي واقعي جدا والمغزى منه أن يَرضى كل واحد منا بما في يده ولا يضيع وقته وجهده في ما لم يُخلق من أجله.
إن المشكلة الوحيدة التي تجعلك كمشاهد لا تشعر بهذه المساواة هي إعتقادك أن الفقراء إن أسكنتهم في مساكن فسيحة في مناطق راقية ستحل مشاكلهم، أو أكلهم في المطاعم سيذهب جوعهم، ولكن انظر لنفسك!!
ها أنا أتحدث إليكم إخوتي وكل منكم لديه على الأقل مكان سكن جيد أو سيارة أو موبايل حديث أو وظيفة على أقل تقدير، بمعنى أن أكثركم لديه ما يعتقد الفقير أن مشاكل الدنيا والآخرة ستحل به، فهل أنتم يا من لديكم هذه الامكانيات سعداء وليست لديكم منغصات؟
أعلم ردكم مسبقا، أنتم لديكم ما ينغص عليكم حياتكم تماما كما الفقراء، بل إن بعضكم قد يتصور أن مشاكله أكثر منهم.
أنتم أيها المصنفون طبقات متوسطة وأعلى، أقدر على إدراك ما يتصوره الفقير على أنه طريق للنجاة، ذلك لأنكم ترون بأعينكم الجانبين وتعرفون جيدا أن السيارة لن تحل شيئا ولا غيرها، وستبقى المعاناة بنفس المعدل ولكن في أشياء أخرى، فبمثل ما ابتلاكم الله به ابتلاهم أيضا به، وضغط الابتلاء عليكم هو نفس ضغط الابتلاء عليهم.
قال تعالى في سورة البقرة:” وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
قد تتصور أن فلاناً أقل منك أو فلان أكثر منك ابتلاءً، على رأي المثل القائل “اللي يشوف بلاوي غيره تهون عليه بلوته”، لكن هذا ليس صحيحا بالمرة، كل ما هنالك هو أن طاقتك قد تتحمل شيئاً لا يتحمله الآخرون، وقد يكون ضغط ابتلاء بسيط على أخ لك مكافئ لنفس ضغط الابتلاء الشديد عليك، لأنك قد يكون لديك من قوة الايمان ما يمَكِنك من التحمل، فإذا ابتلاك الله بما ابتلى أخاك فلن يكون لك ابتلاءً، لذا كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح “أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلى على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة”
يمكن مراجعة موضوع ما هي حقيقة أن المؤمن أشد الناس ابتلاء
قال الله تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا …. (286) – البقرة
في هذه الآية تقرير بأن ابتلاءك سيجعله لك الله في الإطار الذي تستطيع أن تتحمله، وشعورك أنك لا تتحمله هو تقصير منك وهو انذار لك بأنك تحتاج مزيدا من الجهد لتخرج قدراتك الحقيقية التي يعلم الله أنها في نفسك.
كيف تتساوى الدنيا علينا وفيها فقراء وأغنياء؟
الفقراء، لأنهم معتادون الفقر، يصبح ابتلاؤهم في نقص الخدمات الأساسية، أما بقية الأشياء التي تشعر أنت أنهم يعانون منها هي ليست كذلك بالنسبة لهم لأنهم اعتادوها ولا يعرفون غيرها. أما الطبقة التي بعدها وفيها بعض الخدمات الأساسية فتجد الابتلاء في أشياء أخرى يبدأ الإنسان في إدراكها بمجرد إشباع الأساسيات، وهو ما يحدث في الطبقة التالية وما بعدها حتى نصل إلى الطبقة التي اكتملت جميع احتياجاتها المادية، ولكن يبقى الابتلاء معظمه في المشاكل الصحية والنفسية واحتياجات الروح ومشاكل العمل التي غالبا ما تتسم بها مرحلة رجال الأعمال فتجدهم يقسمون أن ما فيهم أشد من أي فقر، هو كذلك ولكن لهم، ولكل منا نصيبه من هذه الشدة.
كما قلت المسألة ثابتة وخروجك من طبقة لطبقة لا يعني حل مشاكلك، يجب أن تقبل وجود المشاكل وليس حلها في أن تحيا حياتك بهدف الحل، لأنك ستحلها وستأتي غيرها مكانها فورا.
الفروق بين الطبقات تذكرني بمسألة فرق الجهد في الكهرباء، هذا الفرق هو الذي يُمَكِن التيار من السير، وهو كذلك في الحياة، الفروق بيننا هي التي تجعل في حياتنا روح، هي التي تجعلنا في سعي دائم لا نقف ولا نسأم، كلٌ له حقوق وعليه واجبات، بل إني أنظر لهذه الفروق كأمانات استأمننا الله عليها، فكل واحد منكم في موقعه عليه واجبات للطبقات من تحته ومن فوقه إذا لم يؤدِ هذه الأمانات بما يجب إما أنه يقع درجة أو أن الله يبارك له في الحرام فيرتفع في درجات الدنيا ولكن مع ذل وعدم راحة طبقات عديدة أسفله، أو أن يؤدي هذه الأمانات فيرتفع بعزة وكرامة في الدنيا والآخرة.
أريد أن أعود لجملة هامة، كما قلت المسألة ثابتة وخروجك من طبقة لطبقة لا يعني حل مشاكلك. يجب أن تقبل وجود المشاكل.
هذا في النهاية ما قصدته:
ليس حل مشاكلك ومفتاح سعادتك واستقرار حياتك أن تفني حياتك بهدف الحل.
ولا أقول أيضا أن لا تحل مشاكلك ولكن أقول لا تعتقد أن الحل سينقذك من المشاكل فتشعر بالإحباط حين تأتيك أخرى.
الشئ الوحيد الذي سيجعلك تعيش بدون مشاكل هو أن تحاول أن تجعل حياتك مع الله فتصبح مشاكل حياتك لها معنى آخر (يمكن مراجعة موضوع ما وراء الحدث).
الحياة مع الله هو أن تحيا وأنت تؤدي ما عليك من أمانات استأمنك الله عليها ويضعها أمامك كل يوم ليرى ما أنت فاعل بها:
يمر من أمامك الآن فقير .. بعدها يطلب منك صديق مساعدة .. يتصل بك أحد أقربائك ليقول لك أن أحد أفراد العائلة مريض .. تمشي بسيارتك تجدها معطلة .. تأتي امرأة جميلة تتحدث معك .. تسمع خبر سيئ أو خبر سار …..
في كل موقف من هذه المواقف يكون الحل النموذجي له إما الصبر وإما الشكر وإما العمل، كل ذلك وأنت في امتحان تأخذ درجات على كل سؤال لتقوم في اليوم التالي فتحصد ما أنجزته في اليوم السابق؛ إما أن ترتقي وإما أن تهبط وهكذا كل يوم حتى يأتي يوم الحصاد الأكبر.
اجعل الله سندك وملجأك لأنه سبحانه معه مفاتيح الحل ومعه القدرة التي بها قد يفتح بينك وبين نعمه في لحظة فتسعد بأقل الأشياء، وبقدرته يهون عليك هذه المشاكل ويبعث من يساندك ويساعدك فيها دون مشقة منك.
هو سبحانه يبعد عنك الهم والحزن ويجعلك أسعد الناس ليس لأن حياتك خالية من المشاكل ولكن لأنه بقدرته يجعلك طيب النفس راضٍ سعيد دون أن يكون لديك سببا لذلك، حتى ترى فخامة ما في الدنيا فتشعر أنك لا تحتاجه، وقتها تستطيع أن تتفرغ لتعمير الأرض بما يرضي الله، وقتها لن تحتاج في تجارتك أن تغش الناس وأن تخرب في اقتصاد دولتك لأن “عينك مليانة”، وقتها لن تحتاج للرشاوى ولن تحتاج لأن تتحايل على زملائك في العمل ولن تحتاج أن تنظر لحرام أو تتمنى حرام لأن هناك شيئ بسيط في نفسك وهو أنك على يقين أن القليل الحلال أكثر بركة من الكثير الحرام وأن رضا الله أكثر بركة من سخطه، فأنت بعد سخطه لا تملك شيئا بل إنك هالك لا محالة.
ملحوظة أخيرة: كثيرا ما تحدثت في هذا الموضوع مع أخوات فيقولن نحن ملتزمات بالصلاة وبالصدقات وبقراءة القرآن وحالنا لم يتغير، فأقول لهم:
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) – الحجرات
إن الايمان علاقة بين العبد وربه تخرج في صورة جهاد وعمل مع نية ثابتة ابتغاءا لمرضاة الله. سيقول لي البعض أنني أناقض نفسي حيث قلت أن الإيمان متعة فكيف لي أن أقول أنه متعة ثم أنه جهاد وعمل؟
والمسألة بسيطة، من قال أن المتعة في عدم فعل أي شئ؟ إن الله لم يخلقنا كائنات ساكنة، والمتعة لا تكون في تحقيق هدفك وليست يوم تصل فيه إلى إنجازك، إنما المتعة في البذل والعمل لهذا الإنجاز، أي أن الطريق إلى الإنجاز كله متعة ووصولك إلى هدفك يكون أقل متعة من بذلك طوال الطريق. أما إنجاز الآخرة فإن الله سبحانه بقدرته يجعله الأجمل والأكثر متعة لأنه إما خلود في جنة وإما خلود في نار.
المؤمن يعمل ليل نهار؛ يراقب الله في عمله، سريع التوبة، يسارع في الخيرات، محسن في أي عمل مكلف به ليقينه أن الله سيحاسبه وأن حقه لن يضيع، والمتعة هنا ليست في الراحة وقلة الجهد، المتعة يضعها الله في قلب ونفس هذا العبد المؤمن فيفعل كل ذلك بل ويسابق عليه وهو سعيد حتى يتصور الناس أنه ساذجا وأنه يبذل الكثير من أجل لاشئ ولكنه هو وحده الذي يعلم أن جهده لا يضيع ويجد رزقا طيبا أينما ذهب، ويستشعر القرب من الله وقتما سجد، ويستمد قوته من وليه رب العالمين نعم المولى ونعم النصير، وفي النهاية سيعلم الناس جميعا من الذي كان فيهم ساذجا.
هذا هو نظام تغيير الحياة أما ممارسة طقوس الدين فهي لن تغير شيئ.
قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) – المؤمنون