البناء العصبي الوراثي للشخصيةنفسية

عقلية المجرمين بين التأثيم المرضي والفهم العصبي

مقارنة بين الممارسات النفسية التقليدية ونظرية البناء العصبي الوراثي للشخصية

لطالما كانت عقلية المجرم موضوعًا شائكًا في علم النفس والطب النفسي والقانون. ما بين من يراها انحرافًا مكتسبًا بسبب البيئة، ومن يعتبرها اضطرابًا نفسيًا، ومن يتعامل معها قضائيًا كاختيار فردي يستوجب العقاب… تاه الفهم الحقيقي للبنية النفسية والداخلية للإنسان الذي يرتكب الجريمة.

وهنا يأتي الفارق الجوهري بين النظرية التقليدية التي تُرجع الإجرام إلى مرض أو اضطراب شخصية ثابت، ونظرية البناء العصبي الوراثي للشخصية، التي تقدم فهمًا جديدًا وواقعيًا لعقلية المجرم باعتبارها تركيبة وراثية فطرية قابلة للخير أو الشر حسب الإدراك، البيئة، والاختيار.

كيف تُعرّف الممارسات النفسية التقليدية المجرم؟

في النموذج التقليدي، يتم تفسير السلوك الإجرامي غالبًا من خلال إحدى ثلاث طرق:

  1. الاضطرابات النفسية:

مثل اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع (ASPD)، واضطراب الشخصية النرجسية، أو السايكوباتية.

تُربط هذه الحالات بقسوة القلب، غياب التعاطف، التلاعب، وانتهاك حقوق الآخرين.

  1. الظروف البيئية:

مثل الفقر، الإهمال الأسري، العنف في الطفولة، أو انعدام التعليم.

  1. التحليل السلوكي:

حيث يُرى الجرم كنتيجة لسلوك متعلم متكرر لم يواجه بعقاب مناسب.

لكن المشكلة في هذا التصوّر تكمن في أنه:

  • يخلط بين التركيبة النفسية وبين السلوك الناتج عنها.
  • يختزل الإنسان في توصيف مرضي دائم لا يمكنه الخروج منه.
  • يفشل في التفرقة بين من اختار الجريمة بإرادته، ومن دفعته بيئته إليها دون وعي حقيقي بطبيعته.

ما الذي يقدّمه نظام البناء العصبي الوراثي لفهم عقلية المجرم؟

في هذا النظام، يُعاد تعريف عقلية المجرم من جذورها:

1. الإنسان يولد ببنية عصبية وراثية فطرية، لا بالخير أو الشر

كل إنسان يُولد محمّلاً بتركيبة نفسية ثابتة فطرية، تُعرف في النظرية على أنها الشخصيات الوراثية. وهذه الشخصيات (مثل المعادية، النرجسية، الحدية، الارتيابية…) ليست أمراضًا، بل أنماطًا عصبية لها وظائف فطرية أساسية في حفظ التوازن البشري.

ومن ثم:

لا توجد شخصية اسمها إجرامية في الأصل، بل توجد شخصية قوية، ذكية، فارسة، وُضعت في بيئة أو موقف جعلها تختار طريق الشر، إما عن إدراك وإرادة، أو عن جهل وظروف.

2. كل شخصية تحمل في طياتها قابلية للخير والشر

في نظرية البناء العصبي الوراثي:

الشخصية المعادية مثلاً تُخلق بفطرة المواجهة، والفراسة، والحدّة، والقدرة على الردع… وهذه صفات لو وُظّفت في الظلم أصبحت إجرامًا، ولو وُظّفت في نصرة المظلوم أصبحت بطولة.

الشخصية النرجسية تملك ذكاءً استراتيجيًا، ورغبة في القيادة، وتقديرًا عاليًا للذات… وهذه الصفات إذا لم تُضبط تقود للاستغلال والتحكم، وإذا نُظّمت تُنتج قائدًا عادلًا يضبط الفوضى.

حتى الشخصية الحدية، بطاقتها العالية وانفعالاتها القوية، إذا نشأت في بيئة قاسية دون فهم، قد تنقلب إلى تدمير الذات أو الآخر، لا لشرٍ فطري، بل لغياب الاحتواء.

مع العلم أن وجود الشخصيات في صورة مفردة هو شيء نادر وأغلب الشخصيات ثلاثية أو ثنائية، بمعنى أن الشخصية المجرم قد تكون شخصية حدية نرجسية معادية أو نرجسية معادية ارتيابية أو نرجسية معادية ارتيابية مثل سفاح التجمع … وهكذا.

3. البيئة لا تصنع الجريمة وحدها، لكنها تفتح أبوابًا لاختيارها

في هذا النظام، لا تُلغى مسؤولية البيئة، لكنها لا تُحمَّل كامل التبعة كما في المدارس التقليدية. بل يُقال:

البيئة تُحرّك البنية النفسية في اتجاهٍ ما، لكنها لا تخلق هذه البنية.

والأهم: أن الإنسان يظل مسؤولًا عن اختياره في النهاية.

كيف نفرّق بين التركيبة الوراثية والسلوك الإجرامي؟

هنا جوهر التفوق في نظرية البناء العصبي الوراثي:

التركيبة الوراثية: ثابتة، فطرية، تمنح الإنسان أدوات نفسية ووظائف عقلية محددة.

السلوك الإجرامي: خيار. قد يكون بسبب انحراف في استخدام تلك الأدوات، أو بسبب ضغط لم يُفهم، أو نتيجة جهل بطبيعة النفس.

فالمجرم ليس حالة نفسية كما يصوّره الطب النفسي، بل هو إنسان لم يُفهم تركيبه ولم يُقدَّم له بديل يناسبه، أو أنه اختار الشر رغم معرفته، فتَحَمّل مسؤوليته.

ماذا يترتب على هذا الفهم؟

1. الوقاية تبدأ بفهم الشخصية قبل انحرافها

عبر النظر في شخصية الطفل والمراهق منذ الصغر، يمكن توقع الشخصيات التي إن أُهملت أو أسيء التعامل معها، قد تميل لسلوكيات عدوانية أو غير أخلاقية.

  • شخصية معادية (مقتصة) لا تجد من يُوجّه قوتها تصبح متنمّرة أو مجرمة.
  • شخصية نرجسية (قيادية) لا تجد احترامًا تصبح انتقامية أو مخادعة.
  • شخصية ارتيابية (شرطية أو بوليسية)  تُهان وتُكسر تصبح مهووسة بالانتقام.

لكن إذا فُهمت هذه الشخصيات منذ البداية، وتم إعطاؤها ما يُشبع احتياجاتها الفطرية بشكل مشروع، ستُثمر قادة وحماة ومفكرين.

2. العلاج لا يكون بالدواء ولا العقاب، بل بإعادة البناء النفسي

في النظام السائد، يُعالج المجرم بالأدوية، أو السجن، أو الجلسات السلوكية التكرارية.

أما في نظرية البناء العصبي، فالعلاج يبدأ من:

فهم الشخصية: ما بنيتها؟ ما الذي تم إهماله فيها؟ ما الذي شوه طاقتها؟

تحليل المسار: كيف تحوّل من فطرة إلى انحراف؟

إعادة البناء: عبر خطة تسترد التوازن النفسي وتفتح له بابًا حقيقيًا للخير، لا مجرد تقويم سلوكي سطحي.

هل جميع المجرمين يمكن إصلاحهم؟

لا.

في هذه النظرية، هناك من اختار الشر بكامل إرادته رغم معرفته، وهنا يكون مسؤولًا أمام الله والناس.

لكن الغالبية من المجرمين في المجتمعات هم في الحقيقة ضحايا تركيباتهم الوراثية المهملة، وبيئة لم تراعِها، وعقول لم تفهمها، ومجتمع لا يرحم الاختلاف.

خاتمة

عقلية المجرم ليست بنية شيطانية، ولا مرضًا نفسيًا دائمًا، بل هي غالبًا انحراف في استخدام بنية خلقها الله لوظيفة عظيمة.

وفي الوقت الذي يجرّم فيه الطب النفسي أصحاب هذه البنى ويضعهم تحت التصنيفات، يأتي نظام البناء العصبي الوراثي للشخصية ليقول:

كل إنسان يحمل أداة، فإما أن يبني بها، أو يهدم. والخير والشر لا ينبعان من الجهاز العصبي، بل من القرار.

إن فهم الشخصيات فطريًا، وتحليل انحرافاتها بإنصاف، وإعطاؤها البدائل الشرعية المشبِعة… هو الطريق الحقيقي لإصلاح المجتمعات، لا تصنيف الناس ولا قمعهم ولا تجريمهم بلا فهم.

 

اظهر المزيد

داليا رشوان

هذا الموقع هو عالمي الخاص الذي أردت أن أنشر من خلاله مشاهداتي والنتائج التي توصلت لها من خلال بحثي المستقل كما أضفت للموقع بعض الأقسام العلمية التي أقصد بها زيادة الوعي والتثقيف العلمي في عالمنا العربي. دراستي الرئيسية طبية وهي الكيمياء الحيوية ومنها تعلمت ما يتعلق بالنفس البشرية بأسلوب علمي تطبيقي وليس فلسفي، مما جعلني أخرج بأساليب عملية تجمع بين العلم والشرع لتيسير الحياة على الناس وإيجاد وسائل السعادة والرضا لهم. للمزيد عني يمكن زيارة هذه الصفحة: عن الكاتبة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
×

مرحبا!

للحالات التي تحتاج دعم نفسي واستشارات أسرية (بواسطة التليفون أو برامج الاتصال الصوتية) يمكن التواصل والحجز واتس أب

× تحدث معى عبر واتس أب