“نقص من الثمرات” ومعنىً يدعو للتفكر
وقعت عيني على منشور يتحدث عن الأجر السريع لبر الوالدين وأنه كيفما تعامل والديك في نفس اللحظة تجد أبناءك يردون عليك نفس المعاملة. نظرت إلى المنشور بعمق وتذكرت أبنائي وأسلوبهم السيئ ومحاولتي المستميتة لبر والداي فلم أجد أي صلة.
فبدأت أبحث في عقلي كيف كنت أعامل أبواي منذ صغري، أبحث عن أي عقوق خرج مني ولو دون أن أقصد حتى يعاملني أبنائي هكذا. وظللت مهمومة لأيام أراجع نفسي وأشعر أنني أستحق كل ما يحدث لي طالما أن الله كتبه علي.
ولكن بينما أنا كذلك وأسمع القرآن كانت سورة البقرة تتكرر، وتأتي آية {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} عدة مرات وأثناء سماعها أشعر أن “الثمرات” وكأنها تحتها خط عريض وكأن الله أراد أن يلفت انتباهي لشئ ما في هذا اللفظ. ثم ذهبت للنوم وأنا مهمومة بأثر هذا المنشور كعادتي منذ أن رأته عيني وبينما كنت أدخل في النوم كان عقلي يبحث في كلمة ثمرات، وفجأة لاحظت أننا نقول ثمرات الأعمال، فانتبهت وطار النوم مني وقرأت الآية بمعنى ثمرات الأعمال وكأن راحة ورحمة أغرقت قلبي بعدها وانزاح الهم والغم.
إن معاني القرآن لا تقف عند المعنى الظاهري بل لها معانٍ لو جلس المتدبر ليتدبرها طوال عمره وعشر أعمار على عمره ما وصل لآخر ما تعني وهذا هو معنى {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} الكهف (109).
آية سورة البقرة من المفترض أنها شملت جميع أنواع الابتلاء، أي أن أي ابتلاء تصاب به يقع تحت: خوف وجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات.
نقص من الأنفس كان الكل يفسرها أنها موت ولكنها فعليا لا تعني ذلك فقط ولكن قد تعني غربة أو بُعد أو جفاء أو طلاق أو سفر أو أي شئ قد يبعد أصدقاء أو أحباب أو مجموعة مرتبطة ببعضها البعض أو صحبة صالحة عن بعضها البعض وافتقاد لآخر سواء في سلطة أو في عمل أو في أسرة .. إلى آخره.
الثمرات دائما ما كنت أقرأها وأشعر أنها لا تعنيني فالنقص في الطعام مثلا يقع تحت [جوع] بطبيعة الحال، فكأن [ثمرات] بالنسبة لي معنىً يخص مزارع فالمزارع قد يفسد محصوله لأي سبب فيقع تحت هذا البند أو يمكن لبلد أن يكون فيها أزمة فتصبح المحاصيل فاسدة أو شحيحة فتقع أيضا تحت نفس البند ولكن يظل معنىً محدودا.
أحببت أن أتحرى بشكل علمي فبحثت في المعجم عن ثمرات فوجدت التالي:
أثمر الشَّجرُ طلع ، ظهر ثمرُه :- {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَر}.
أثمر العملُ : أتى بنتيجة :- قدم له نصيحة مثمرة .
أثمر مالُه : كثُر ، نَما :- رأس مال مُثمر ، – المال الحرام لا يثمر .
أثمرت الشَّجرةُ تفاحًا : أخرجته وأظهرته :- تثمر الشجرة ثمرًا حلوًا .
أي أن “ثمرات” قد تكون ثمرات بالمعنى المعروف من محاصيل وحبوب أو قد تكون نتائج الأعمال.
وإذا تحدثنا عن ثمرات الأعمال فقد تشمل أعمال الدنيا أو الآخرة؛ أما ثمرات أعمال الدنيا فهي مثل مشروع قد يبتليك الله في نجاحه أو نتائجه أو أن تجتهد في عمل دنيوي فلا تجد عائدا مناسبا، أما أعمال الآخرة، فقد تجتهد في عمل صالح ويبتليك الله في أجره فيؤخره عنك. وهذا المعنى يشمل معظم الناس، وهو معنىً يثلج صدر الكثير، ويجعل الناس يتعاملون مع أحداث في حياتهم بشكل مختلف فيه صبر جميل يحبه الله ورسوله.
وأعود إلى المنشور الذي رأيته ومنشورات مثله كثيرة تثير الإحباط لدى الناس دون أن يدري ناشرها ويعتقد أنه يفعل خيرا.
بر الوالدين لا نفعله حتى يرد لنا أبناؤنا ما فعلناه. بر الوالدين نقوم به لأن الله أمرنا بهذا فنبتغي مرضاته دون أي شروط. وإن كنا نبر والدينا حتى يرد لنا أبناؤنا ما فعلناه فماذا عن من لم يتزوجوا وليس لهم أبناء وماذا عن من مات أبناؤهم.
هناك مبدأ آخر في شرع الله وهو أنه من غير الجائز، على سبيل المثال، أن تعطي صدقة لشخص وتطلب منه الدعاء لأنك بذلك حددت أجرك على الصدقة بالدعاء وليس لك عند الله أجر، ولكن إن سكت وابتغيت الأجر من الله فهو سبحانه سيضاعف لك الجزاء بحجم قد لا تتخيله بقدر إخلاصك. فكيف أقوم ببر والداي من أجل أن يعاملني أبنائي بنفس البر؟ هكذا بنفس المبدأ أنا أقصر أجري على هذا البر وأطلب أجرا محددا ليس لي غيره.
الأمر الثاني هو أن الله سبحانه قد يؤخر أجر الطاعة أو قد يرسلها للإنسان في صورة أخرى غير ظاهرة له والإنسان المؤمن يعرف ذلك وكله يقين في الله أنه سبحانه لن يبخس حقه فيرضى عن كل شئ يحدث له دون أن يبحث عن ما فعل وهل جاءه حقه من الله أو لا، فقد يُظلم الإنسان في “مال” فيرسله الله له “عِلم” أغلى من المال بل أحيانا يكون عِلما لا يقدر بثمن، فعلى الإنسان أن يثق في عطاء الله.
لذلك حين ننشر محتوى إسلامي يحدث الناس أن ما ستفعله اليوم سيرد إليك غدا في نفس الصورة بالضبط فهذا تضليل للناس وإثارة للإحباط لأنه قد لا يرد سريعا وربما ليس في نفس الصورة. كذلك أنت بهذا المنشور تحث الإنسان حين يفعل الطاعة أن يضع عينيه على ثمرة عمله بشكل محدد فإذا جاء في صورة أخرى يعتقد الإنسان أن عمله ليس منه فائدة ويتوقف عن الطاعة ويضل الطريق ويعتقد أن طريق الله هو أن يعطي ويتحمل الأذى ويطيع بلا أدنى مقابل من وجهة نظره أو ما فهمه من المنشورات الدينية، ورأيت كثير من الناس على هذا الحال للأسف.
مثال آخر منتشر، قال رسول الله صل الله عليه وسلم: “داووا مرضاكم بالصدقة”، ولكن حين نقول أن الصدقة لدرجة أن يتبرع الإنسان بقيمة بالكاد يملكها لعملية جراحية فسيشفيه الله دون إجراء هذه العملية أو أن يشفيه من مرض لا يتم الشفاء منه، فهذا أيضا تضليل. في الحديث الصدقة قدر الإمكان فإن كان المرء غنيا فليتبرع كما شاء ولكن إن كان فقيرا فيكفيه القدر القليل، وعلى المريض أن يأخذ بأسباب الشفاء، وقد ينفق مبلغا صغيرا ولكن بإخلاص شديد لله فيشفيه سبحانه، ولكن قد يتصدق ولا يشفيه الله لأنه عز وجل أعلم أن مرض الإنسان خير له لحكمة لا يعلمها إلا هو، وقد يكون موته لإنقضاء أجله ومعاناته رفع لمكانته قبل وفاته فهل نقول لقد تبرع بالمال واعطى الصدقات ثم مات أو لم يشفيه الله؟
أنت لا تعول على الصدقة وإنما تعول على يقينك في الله والفارق كبير.
الأساس أننا نأخذ بالأسباب ونفعل الطاعات ابتغاءا لمرضاة الله، والله أعلم بسرائرنا فإن اطلع على قلوبنا فوجدنا نشتاق شيئا فلعله سبحانه إن علم أنه خير أعطانا إياه والكثير معه وإن وجده شرا عافانا منه وأعطانا ما هو خير منه.
الأصل في عبادة الله هي إرضاؤه سبحانه وإن رضي فسيعطيك من حيث لا تحتسب، أما عبادته عز وجل طمعا في الجنة فهي منزلة أقل وعبادته سبحانه لتجنب دخول النار فهي منزلة أقل من الأخيرة.
طاعة الله الخالصة لا تشترط أجرا محددا عليها ولكن تحتاج الاستسلام الكامل لله وابتغاء مرضاته في الأجر ثقةً وتوكلا ويقينا فيه سبحانه.