العمل الجماعي وفهم الديناميكيات داخل الفرق بذكاء البناء العصبي الوراثي للشخصية
في بيئة العمل أو في أي مشروع جماعي، لا يكفي أن نضع أفرادًا معًا ونتوقع منهم أن يتعاونوا بانسجام. فحتى أكثر الأهداف وضوحًا، وأفضل الخطط، قد تفشل إذا غابت المعرفة الدقيقة بالشخصيات التي تؤلّف الفريق. ومن هنا تظهر أهمية فهم البناء العصبي الوراثي للشخصية لفهم ديناميكيات الفرق وتوجيهها نحو التعاون الفعّال.
أهمية البنية العصبية في تشكيل التفاعل داخل الفرق
كل شخصية وراثية تمتلك نمطًا عصبيًّا فطريًّا يحدد طريقة إدراكها للمواقف، وتفاعلها مع الآخرين، واستجابتها للضغوط والصراعات. وبالتالي، فإن سلوك الفرد داخل الفريق ليس سلوكًا اعتباطيًا، بل هو انعكاس لتركيبته العصبية.
فعلى سبيل المثال، الشخصية الحدية (المبدعة) تطرح أفكارًا غير تقليدية بسرعة، بينما الشخصية النرجسية (القيادية) تميل إلى توجيه الأمور من موقع استراتيجي، وتحرص على الصورة العامة والهيكل، وقد تصطدم بالمبدعة إن لم تُدر العملية بشكل يراعي خصائص كل منهما، لأن طاقة الشخصية الحدية والتفاصيل التي تركز فيها والمعايير العالية التي تتبناها تجعلها أكثر جذبًا للأنظار فتتصادم مع الشخصيات النرجسية التي تحب أن تكون أينما كانت رقم واحد والجاذبة للأنظار.
وقد يتفاقم الصدام مع وجود شخصيات أخرى مثل المعادية (المقتصة) التي من طبعها السخرية فتهين النرجسية وتسخر من الحدية دون قصد، وتدخل بينهم الهستيرية (الإعلامية) ذات الانفعال العالي دون عمل حقيقي على أرض الواقع فتستفز الجميع، أما الشخصيات الارتيابية (الشرطية) فتشكك في نوايا الجميع والجميع أصلًا متربص ببعضه.
التركيبات الغالبة وتأثيرها على الفرق
ولو أن المثال السابق كان يدور حول شخصيات مفردة لكن أرض الواقع نادرًا ما تكون به شخصيات واحدة فقط ومعظمهم ثنائيات وثلاثيات، ووفقًا لذلك فإن التركيبات التالية هي الأكثر شيوعًا داخل الفرق:
حدية نرجسية تجنبية – حدية نرجسية ارتيابية – حدية نرجسية معادية – نرجسية ارتيابية – نرجسية معادية – حدية تجنبية – حدية ارتيابية – حدية نرجسية هستيرية – نرجسية هستيرية – نرجسية تجنبية
كل تركيبة من هذه التركيبات تحمل تفاعلًا خاصًا داخل الفريق:
حدية نرجسية تجنبية
هذه الشخصية مبدعة قيادية مجتهدة تتميز بالتحليل العميق وبالتالي هم أكثر بطأً في التفكير واتخاذ القرارات لكن أكثر عمقًا فيما سيترتب على هذه العملية لذلك هم يصلحوا للتحليلات التي يسمح الوقت بها والتي غالبًا ما تكون طويلة المدى.
وهي لا تشتكي بسهولة فقد تسكت عن الظلم، وتتحمل فوق طاقتها في صمت، مما يؤدي لتراكم الضغط. تحتاج إلى من يفهم أنها لا تشتكي، ولكنها ليست بخير، ويُراعى إعطاؤها مساحة للتعبير دون فرض مباشر.
حدية نرجسية ارتيابية
شخصية سريعة التحليل، دقيقة، لكنّها قد تسيء الظن بسهولة مما يجعلها متقلبة. لذا تحتاج إلى وضوح في القواعد والمهام لتشعر بالأمان داخل الفريق، وتتفجّر إنتاجيتها عند استشعار الاحترام والثقة.
حدية نرجسية معادية
هذه الشخصية شديدة الدهاء ولديها سرعة بديهة غير طبيعية وهي تصلح للقرارات السريعة، ولكنها أقل عمقًا ودقة من الشخصيات الحدية النرجسية التجنبية. تستطيع السيطرة على الأعداد ووضع حدود صارمة لكن من عيوبها الجرأة وفجاجة الألفاظ، مما يضع بقية الفريق الذي ستكون في غالبية تركيبته شخصيات نرجسية في وضع غير مريح، لأن أساس الشخصيات النرجسية حماية النفس والأسلوب غير المباشر.
كما أن هذه الشخصية تعاني في وجود سلطة وقوانين تحكمها مما يجعل السيطرة عليها صعب إلا أن يكون لديها الفهم الواعي لدورها.
نرجسية ارتيابية / نرجسية معادية
يمثلون طبقة تنفيذية واستراتيجية قوية، لكنّهم قد يتخذون قرارات فردية دون الرجوع للفريق، بدافع منطق السيطرة والحذر من الآخرين. تفويض المهام لهم مفيد، بشرط متابعة دورية دون تشكيك في قدراتهم.
حدية تجنبية / حدية ارتيابية
كلاهما دؤوب، ملتزم، غزير العطاء، ومنضبط، لكن قد ينهاران فجأة من كثرة الضغط، خاصة أن كلا الشخصيتين يفتقد النرجسية، مما يجعلهما عرضة للسيطرة من قِبل الشخصيات النرجسية والمعادية عبر استغلال نقاط الضعف.
حدية نرجسية هستيرية / نرجسية هستيرية
يميلون إلى لفت الانتباه، وإثارة الحماس، والتفاعل الظاهري. يصلحون لتقديم الأفكار والمشاركة الإعلامية، ولكنهم قد لا يملكون عمق التخطيط أو الانضباط طويل المدى.
نرجسية تجنبية
تنفّذ بدقة، وتهتم بالصورة والانضباط، لكنّها قد تخشى المواجهة. تحتاج إلى بيئة آمنة تشعر فيها بالتقدير والدعم لتُظهر إمكانياتها الكامنة.
ملاحظات أساسية لإدارة الفرق متعددة الشخصيات
1- توزيع الأدوار داخل الفريق: وفق البنية العصبية للشخصية، لا وفق التخصص فقط
في نظام البناء العصبي الوراثي للشخصية، توزيع المهام داخل أي فريق ناجح لا ينبغي أن يُبنى على المهارات الفنية فقط، بل على الفهم العميق للبنية النفسية والعصبية لأعضاء الفريق، لأن طبيعة الشخصية تحدد ليس فقط ما يُجيده الفرد، بل كيف ومتى ومع من يجيده.
- الشخصية القيادية (النرجسية) – سواء كانت نقية أو ممزوجة بحدّية أو ارتيابية – تُجيد التخطيط الاستراتيجي، رسم الهيكل العام، توزيع المهام، وتوجيه الفريق نحو الأهداف الكبرى. لكنها في الغالب لا تحتمل الغوص في التفاصيل اليومية أو المهام المتكررة، وقد تتوتر عند الاضطرار لمتابعة الإجراءات الدقيقة. مكانها الأمثل: في قيادة المسار، لا في تنفيذه التفصيلي.
- الشخصيات التي تحمل الجانب الحدّي (المبدع) – سواء مع نرجسية، تجنبية، أو ارتيابية – تتميز بقدرة عالية على توليد الأفكار، فتح المسارات الجديدة، الربط بين التخصصات، وإشعال شرارة المشاريع. لكنها قد تعاني من الإرهاق العقلي السريع إذا حوصرت بالروتين. تحتاج دائمًا إلى مساحة حرة للتفكير والمبادرة، مع شريك يُتابع التنفيذ.
- الشخصيات التي تحمل الجانب التجنّبي (المجتهد) – سواء مع نرجسية أو حدّية – تُجيد الثبات والانضباط والتركيز على التفاصيل الدقيقة. تصلح بشدة للمهام التي تتطلب تدقيقًا، مراجعة، توثيقًا، أو بناءً منهجيًّا على خطوات. حين تعمل خلف الكواليس، تُنتج نتائج مبهرة لا تظهر إلا بعد اكتمال الصورة.
- الشخصيات التي تحوي الجانب الارتيابي (الشرطي) تميل إلى الحذر، التحليل، وتوقّع الأخطار. تصلح في مواقع التفتيش على الثغرات، مراجعة الخطط قبل التنفيذ، أو إدارة المخاطر. كما يمكنها أن تُسهم في حماية الفريق من القرارات المتهورة، خاصة حين تقترن بالنرجسية.
- الشخصيات المعادية (المقتصة) حين تكون موجودة، فهي الأكثر قدرة على الحسم، الدخول في المواجهات، وفتح الأبواب المغلقة، لكنها تحتاج إلى ضوابط واضحة لأن طاقتها قد تتحول إلى صدام إذا لم توجَّه. هي نافعة في التفاوض، تحصيل الحقوق، أو المواقف التي تتطلب كسر الجمود.
- الشخصيات الهستيرية (الإعلامية) تصلح في العلاقات العامة، خلق الأجواء، كسر الملل، والتعامل الودي مع الجمهور، شرط أن تكون محاطة بشخصيات أخرى أكثر ضبطًا.
أما التركيبة الثلاثية، فهي تحدد الدور المُرَكّب للفرد داخل الفريق:
فـ”حدي نرجسي تجنبي” مثلًا قد يُبدع في المبادرة والتنفيذ معًا، لكنه يحتاج ضبطًا في الانفعالات.
و”نرجسي ارتيابي معادي” قد يُبدع في التخطيط الحاد والمواجهة، لكنه يحتاج لداعم عاطفي لتخفيف حدّته.
و”حدي تجنبي ارتيابي” قد يكون مذهلًا في التفاصيل والتحليل، لكنه قد يحتاج لمن يفتح له المسار ويشجعه على الانطلاق.
القاعدة الذهبية:
لا يوجد دور ثابت، بل دور متغير حسب التكوين العصبي النفسي للفرد داخل السياق الجماعي. النجاح في العمل الجماعي لا يتطلب فقط معرفة من هو الأفضل في ماذا، بل كيف نجعل كل شخصية تؤدي دورها الطبيعي الذي لا يُرهقها بل يُفعّل طاقتها الكامنة.2. معالجة الصراعات بفهم لا بلوم
التصادم بين الشخصية المعادية والارتيابية مثلًا، سببه اختلاف الدافع: الأولى تسعى للسيطرة بوضوح، والثانية تدافع عن نفسها ضد الخطر المحتمل. عند فهم هذا التباين، يمكن إدارة الصراع دون شخصنته.
2- إعطاء الحق النفسي وليس فقط المهني
بعض الشخصيات لا تحتاج إلى كلمات مديح، بل إلى أن يشعر الآخرون بثقل عملهم. والبعض الآخر لا يعمل إلا إن شعر أنه في موقع مميز. الفهم هنا يوفر بيئة عمل مُلهمة.
-
المرونة في وسائل التواصل
فالشخصية التجنبية قد لا تتحدث كثيرًا في الاجتماعات، لكنها تكتب جيدًا. والهستيرية تتحدث بعفوية، لكن قد يصعب عليها كتابة تقرير. مراعاة ذلك يزيد من فاعلية التفاعل.
-
العمل الجماعي كمنظومة عضوية
عند فهم الشخصيات الوراثية، يمكننا أن ننظر إلى الفريق كمنظومة عصبية متكاملة:
الحدية هي الدماغ المفكر والمقترح.
النرجسية هي القائد والموجه العام.
التجنبية هي الجهاز التنفيذي الدقيق.
الارتيابية هي جهاز الإنذار والمراقبة.
المعادية هي المُجري الجريء الذي لا يخاف التجربة.
الهستيرية هي المتحدث الإعلامي الجذاب.
الوسواسية (إن وُجدت) هي ضابط الجودة، رغم ندرتها.
كل فرد يحمل جزءًا من التوازن. وكل خلل في الفهم المتبادل هو خلل في التناغم العصبي داخل الفريق.
خاتمة
العمل الجماعي ليس فقط تقنيات وإجراءات، بل هو وعي عصبي-نفسي متكامل. ونظرية البناء العصبي الوراثي للشخصية لا توفّر فقط تصنيفًا للشخصيات، بل تقدم خريطة ديناميكية لإدارة الفرق بوعي يراعي التركيبة العميقة لكل إنسان.
حين نُدير الفرق بهذا الفهم، لا نخلق بيئة إنتاج فحسب، بل بيئة نمو حقيقي للأفراد والجماعة معًا.