وهل تصلح الحياة بلا كذب
بقلــم داليــا رشــوان
الصدق يراه كثيرون هذه الأيام وكأنه درب من دروب الخيال ويعتبرون الكذب جزءا لا يتجزأ من الحياة العصرية، وأصبحت نداءات العلماء والدعاة بتحري الصدق أشبه بكلام نظري. وكيف لنا في مثل هذا الزمن أن نكون صادقين، فلو صدقنا قد يفقد بعضنا أهله أو أصدقاءه أو حتى عمله أو زواجه، وهناك ألف سبب وسبب يدفعنا دفعا لعدم التخلي عن الكذب وإيجاد المبررات المنطقية للتمسك بهذه الخصلة المذمومة.
ولكني أريد في البداية لفت النظر لشئ هام وهو “اعتياد المعصية”، وللأسف هذا الداء يجعلنا ننظر لمن يدعو إلى القيم كأنه يتحدث عن شئ غريب، وكيف نغير من سلوكنا ومن وجهة نظرنا أن الحياة تمشي وكل شئ هادئ، فقد اعتدنا المعصية، فقدنا هيبة تعدي حدود الله، وجزانا الله بالمعيشة الضنك التي وعد العصاة بها، ولكننا اعتدنا أن الحياة كئيبة فلم نرجع سبب تعاستنا لمعاصينا ولكن تلك هي الحياة كما يقولون، ولا نعلم شيئا عن جيراننا الذي التزموا أوامر الله ونواهيه فأثابهم الله بحياة يغمرها لذة الإيمان وسط صخب الدنيا وابتلاءاتها، ولأن المؤمنين أكثر الناس ابتلاءا فيظن الآخرون أن إيمانهم لم ينفعهم، ولكنهم لا يعلمون شيئا عما أفاض الله به على هؤلاء في الدنيا والآخرة. إن وعد الله حق.
سمعت من يقول أنا ضعيف أمام النساء فمضطر للزنا والله غفور رحيم، وآخر يقول مشكلتي أن عملي حرام شرعا ولكني لا أجد غيره والله غفور رحيم، وآخر يقول أحتاج المال فمضطر للرشاوى …. وهكذا الكذب وهكذا كل معصية، ولكني أتساءل هل نهى الله عن الزنا لمن لا يميل له، وهل نهى الله عن الرشاوى لمن لا يحتاج المال ولا يرتشي، وهل أمر الله بغض البصر لمن لا يجد حوله النساء!! كيف نقول هذا ونصدق أنه مبرر!!؟
إنما نهى الله من يتعرض لكل ذلك ولا يستطيع أن يتماسك أمامه، ووضع الله البدائل التي تغني الإنسان عن الحرام، ولكنه يحتاج إلى ما يسمى بجهاد النفس، وهو أحد أنواع الجهاد في الإسلام، ولكننا نتكاسل، ونريد الحياة أن تتغير وحدها ونحن نائمون في بيوتنا، وتناسينا قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (11)} الرعد.
إن قول الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (286)} البقرة، يقوله الناس بالباطل تعبيرا عن أنهم غير مطلوب منهم إلا ما يستطيعون، وبما أنهم كسالى وبما أن استيقاظهم من غفلتهم فيه مشقة فإن الله يغفر لهم تلك المشقة، أما حقيقة الأمر فهي أن ما فرضه الله عليك وما نهاك عنه هو في وسعك لأنه سبحانه أعلم بك ولن يكلف نفسك إلا وسعها فعليك بالعمل والجهاد فأنت تطيق ذلك بذلك التأكيد من خالقك.
حديثي لا يسري على الكذب فقط ولكن على جميع الأخلاق التي افتقدناها وحدود الله التي تعديناها.
وعودة إلى الكذب فإني تأملت هذه الخصلة فيمن حولي فوجدت أن من يبدأ فيها لا ينتهي عند حد أبدا، فالكذب يغرق صاحبه كالرمال المتحركة فلا يستطيع أن ينتزع نفسه منه أبدا إلا بتوبة خالصة يتبعها عون من الله. ولأن الله رحيم بعباده تجده سبحانه يمهل الكاذب فترة من الوقت لعله يرجع إلى ربه ولكن بعدها إذا لم يرجع وجد كذبه وقد افتضح وبدأت المشاكل من كل اتجاه، وكلما كذب فضحه الله وينقلب إلى منافق ويُعرف في الناس بذلك حتى يكون مكروها بينهم وتسوء سمعته والأسوأ من هذا أنه لا يثق به أحد.
هل تتخيلون معي فقد الثقة والمصداقية في شخص ما ماذا يعني له، يعني أن أي كلمة تصدر منه لا يُعتد بها، سواء إذا احتاج مساعدة أو إذا حدَّث بموضوع أو إذا كان له حق عند أحد، من ذا الذي يصدقه، ومصيبة أخرى بينه وبين زوجته وأهله وأصدقاؤه حيث الشك في كل شئ يصدر عن هذا الشخص،.
ما هذه الحياة؟!! ولم نقبل مثل هذا على أنفسنا؟
إن الصدق حرية والكذب قيد يفتك بصاحبه وإن بدا له أنه طوق النجاة.
إني أنظر حولي أجد الكثير قد وصل إلى هذه الدرجة والكثير في الطريق، لكن وصفي التفصيلي لحالة الكاذب يجعل الناس تشعر أنها مبالغة ووالله ما هي بمبالغة ولكنها الواقع الأليم، قد يبهرنا أشخاصٌ تعجبنا أشكالُهم وتخفي وراءها هذا الغول الذي يسمى الكذب والنفاق ونحن نعلم ذلك عنهم ولكن أشكالهم جذبتنا بل منا من يسعى أو يتمنى أن يصبح مثله. ومشكلتنا الحقيقية هي أن الله يعطي كلا منا ما يريد بكل تفاصيله، فاحذر أخي ماذا تريد، فإن الله لا ينظر إلى ما تقوله لمن حولك وما تبديه لهم ولكن الله يحقق لك ما تخفيه في قلبك وكم من معاصي تخفيها القلوب.
أما الصدق فهو الطريق الأصعب ولكنه يسير لمن يسره الله له، فإذا قررت أخي أن تلتزم الصدق فسيجعل الله لك مخرجا من كل موقف تظن أنك لن تخرج منه، كما يجازيك الله بعزة بين الناس وتصبح كلماتك في ميزان الذهب، ولكن اعلم أن التيسير من الله فالصدق في بدايته صعب مثله مثل جميع الطاعات حتى تُثْبت لله أنك جاد في ترك الكذب ابتغاء مرضاته، وهل تظن أن الله يضيعك بعد أن توكلت عليه وتركت شيئا مذموما لمرضاته؟
يقول الله تعالى: { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) العنكبوت
10-06-2006