الفرق بين مفهوم الاضطراب النفسي في الممارسات التقليدية وفي نظام البناء العصبي الوراثي للشخصية
في الممارسات الحالية لعلم النفس والطب النفسي، يُعرّف الاضطراب النفسي بأنه حالة مرضية تتسم بأنماط من التفكير أو الشعور أو السلوك تؤدي إلى ضيق نفسي أو قصور وظيفي أو كليهما، ويُنظر إليها كخلل في الصحة العقلية. تُوضع هذه الاضطرابات في تصنيفات ثابتة، كما هو الحال في دليل DSM-5، ويُفترض أنها كيانات مرضية منفصلة، يجب تشخيصها ومعالجتها إما بالأدوية أو بجلسات علاجية نفسية.
لكن هذا المفهوم يواجه إشكاليات عديدة. أولاً، الحدود بين “الطبيعي” و”المرضي” ليست دائمًا واضحة. فشخصية تعاني من القلق الشديد، على سبيل المثال، قد تُشخّص باضطراب القلق العام، رغم أن هذا القلق قد يكون ناتجًا عن طبيعة عصبية موروثة وليس “خللًا”. ثانيًا، كثير من الأشخاص يتلقون تشخيصات مركبة (comorbidity)، مثل الاكتئاب مع اضطراب الشخصية الحدية، أو القلق مع الوسواس القهري، ما يشير إلى غموض في الفهم الجذري لهذه الحالات، ويطرح تساؤلات عن دقة النموذج التصنيفي نفسه.
جذور مختلفة: النظام التقليدي مقابل النظام الوراثي العصبي
نظام البناء العصبي الوراثي للشخصية يقدم بديلاً جذريًا. لا يُنظر فيه إلى “الاضطراب النفسي” كخلل أو مرض، بل كنتيجة لاختلال العلاقة بين البنية العصبية الوراثية للفرد والبيئة المحيطة به. يُفترض أن لكل شخص تركيبة عصبية ثابتة موروثة، تُشكّل شخصيته بجوانبها الفكرية والسلوكية والعاطفية. ما يُسمى بـ”الاضطراب” هو مجرد تعبير غير متوازن أو مشوّه عن هذه البنية، نتيجة عدم فهم احتياجاتها أو التعامل معها بأسلوب غير مناسب.
في هذا النموذج، لا يوجد مرض نفسي بالمعنى الطبي، بل يوجد سوء توافق بين الفرد وعالمه، سببه الأساسي تجاهل الخصائص العصبية الموروثة التي تحكم تفاعله.
التشخيص: توصيف ثابت أم فهم ديناميكي؟
في النظام التقليدي، يُفصل التشخيص عن الشخصية، ويُفترض أن الشخص قد يكون “مصابًا” باضطراب مثل الاكتئاب أو القلق أو الوسواس القهري. وتُمنح هذه التشخيصات بناءً على أعراض ظاهرة، عبر مقابلات أو استبيانات معيارية، دون النظر إلى التركيبة العصبية التي قد تُفسر هذه الأعراض.
في المقابل، في نظام البناء العصبي الوراثي، يتم تحليل الشخصية ككل، من خلال فهم بنيتها الثلاثية أو الثنائية إن وُجدت، لتحديد سبب الأعراض. فمثلًا، ما يُصنَّف كاكتئاب في الطب النفسي قد يكون مجرد نوبة إجهاد مزمنة لدى شخصية حدية نرجسية تجنبية، نتيجة لغياب شروط التوازن الخاصة بهذه التركيبة. وبالتالي، لا يُعالج العرض بل يُعاد بناء البيئة حول الشخصية بما يتوافق مع بنيتها.
العلاج: دوائي نفسي أم إعادة بناء العلاقة بالذات؟
يعتمد الطب النفسي الحديث على مزيج من العلاج الدوائي والعلاج النفسي السلوكي أو التحليلي. وتفترض هذه النماذج أن الأعراض هي أمر غير طبيعي يجب محوه أو تعديله. فالاكتئاب، مثلًا، يُعالج بأدوية مضادة للاكتئاب، والوسواس القهري بمثبطات استرداد السيروتونين، والقلق بجلسات سلوكية معرفية. إلا أن نسبة كبيرة من المرضى لا تتحسن بشكل جذري، أو تدخل في دورات علاج طويلة دون استقرار.
أما في نظام البناء العصبي الوراثي، فالعلاج لا يبدأ بتشخيص الأعراض بل بفهم الجذر العصبي لها. الجلسات لا تهدف إلى “تعديل السلوك” بل إلى “فهم الشخصية وإعادة بناء علاقتها بذاتها والواقع“، بحيث تتوافق البيئة والعلاقات والأسلوب الحياتي مع الاحتياج العصبي للشخص. وهنا لا يوجد مسمى مثل “اضطراب اكتئابي” بل يُقال إن “هذه الشخصية في نوبة انهيار نتيجة ضغط زائد على الجزء الحدّي” على سبيل المثال، وتُعالج بإعادة بناء ظروف الحياة لتلائم بنيتها العصبية.
الأطفال والمراهقون: اضطرابات أم شخصيات قيد التكوين؟
في النظام التقليدي، قد يُشخّص الطفل المصاب بنشاط زائد أو سلوك معارض باضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD)، أو باضطراب التحدي المعارض (ODD). وتُعطى أدوية أو تُفرض برامج تعديل سلوك قاسية، في تجاهل تام لما إذا كانت هذه التصرفات تعبيرًا طبيعيًا عن بنية عصبية مميزة، مثل الشخصية الحدية النرجسية المعادية في نظام البناء العصبي الوراثي.
هذا النظام يرى أن الطفل لا يُشخّص بل يُفهم. لا يُقال إنه مريض، بل يُدرس أسلوب تفكيره وحاجته البيولوجية، وتُعدّل البيئة التربوية لتمنحه التوازن. فهو ليس مريضًا بحاجة إلى كبت نشاطه، بل عقل نشط يحتاج لتوظيف صحيح وبيئة مرنة تدعمه.
من المسؤول؟ ومن يعاني؟
النظام التقليدي غالبًا ما يُلقي اللوم الضمني على المريض، ويطالبه “بالعلاج” و”التغيير” و”ضبط النفس”، وكأنه مصدر الخلل. أما في نظام البناء العصبي الوراثي، فلا يوجد “ملامة”، بل تشخيص للمشكلة على أنها مشكلة علاقة: علاقة غير متوازنة بين الشخص وبيئته. المسؤولية موزعة بين الفرد ومحيطه، والحل في التعديل، لا في الكبت.
نتائج متباينة
تشير الممارسات الإكلينيكية إلى أن تطبيق نظام البناء العصبي الوراثي يساعد الأشخاص على الاستقرار بشكل أسرع، لأنهم يفهمون أنفسهم بعمق لأول مرة، ويشعرون بأنهم مقبولون كما هم، دون محاولة إجبارهم على التصرف كأشخاص آخرين.
وفي المقابل، يعاني كثير من مرضى الطب النفسي الحديث من وصمة “المرض العقلي”، ومن الإحباط الناتج عن العلاجات الطويلة غير المجدية، التي تضعهم في خانة العاجز لا الفاعل.
في الختام
لا ينكر نظام البناء العصبي الوراثي أن الإنسان يعاني، لكنه يعيد صياغة هذا الألم بشكل يُعيد للإنسان كرامته. لا يراه مريضًا ناقصًا يحتاج إلى ترميم، بل ككائن مميز، له نظام تشغيل خاص، يحتاج فقط إلى من يفهمه ويعامله على أساسه.
إن الفرق الجوهري بين المفهومين هو أن الطب النفسي يعالج “المرض”، أما البناء العصبي الوراثي فيُعيد “الإنسان إلى نفسه”. ولهذا، فهو ليس بديلاً علاجيًا فحسب، بل إعادة تعريف جذرية لما يعنيه أن تكون إنسانًا.