إلا اللــمم
تكشفت أمامي على مدى سنوات طويلة مضت حُجج من داخل الدين يلويها الناس ليا لتوافق أهواءهم سواء كانوا متدينين أم غير ذلك، وذلك كصمام أمان يُبرر تجاوزهم لحدود الله أو تقاعصهم عن واجبات أمرهم سبحانه بها، وكأن الناس يتفحصون دينهم باحثين فيه عن ثغرة ينفذون منها، تماما مثل المحامي الذي يبحث عن ثغرات القانون ليأخذ حقوقا ليست من حق موكله، ولكن مع الله الأمر ليس مشابه فهو سبحانه رقيب عليك يعرف سرك وجهرك ومكرك مع الله سيقابل بمكر الله بك قال تعالى:” وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) – الأنفال.
عملك إن لم تسبقه نية صالحة لوجه الله يعلمها سبحانه فسد عملك، والنية كلما زادت صلاحا زاد العمل أجرا ولكن صلاح النية لا يكون بالقيام بالعمل بتأفُف أو بالكاد ولكن يكون بتعظيم شعائر الله أي بتعظيم الصدقات مثلا وإختيار أفضل ما تتصدق به والتفكير قبل فعل الشئ على أي الأشكال تقوم به كي يكتسب تمام رضا الله عنه.
أي أن صلاح النية يساعدك عليه علمك بالله وتعظيم قدره في نفسك ومعرفتك به حق المعرفة. والنية لا تصح بإرتكاب المعصية مع سبق الإصرار والترصد والتخطيط لتوبة مقبولة بعدها مثل أخوة سيدنا يوسف عليه السلام.
من التبريرات التي قابلتني “إلا اللمم” كما في الآية التالية من سورة النجم:
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ۚ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ۖ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ (32)
أي أن الإنسان ناجٍ طالما إرتكب الصغائر وتجنب الكبائر
ولكن .. هل يتعارض ذلك مع ما جاء من السنة كالتالي:
من خطبة الوداع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (…. أما بعد أيها الناس فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به بما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم ….)
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “(إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه)
وفي الحقيقة ليس هناك تناقضا نهائيا حين نبحث في المقصود باللمم، فاللمم ليس ذنبا تقصده بحجة أنه ليس من الكبائر وتعتبره ذنبا مغفورا مسبقا. إذا كان هذا مقصدك فإن هذه الذنوب الصغيرة في نظرك لا تعد لمما ولكن هي من محقرات الذنوب المهلكة. ولنتجنب الدخول في الخلافات حول هل الإصرار على صغيرة يجعلها كبيرة أم تظل صغيرة لأن تلك المتاهات في رأيي هي أشياء بين العبد وربه، والله أعلم بعباده وبسوء نواياهم وهو القادر على محاسبتهم، ولنكتفي أن هذه الذنوب البسيطة (من وجهة نظر مرتكبها) عمليا على أرض الواقع تجر بعضها بعضا. ودعونا ننظر في مرادف “تبرير إلا اللمم” عند عامة الناس: هو يعني تقاعص الإنسان عن شئ ما يعتقد أنه صغير إعتقادا منه أن هذا العمل لا يندرج تحت بند الحساب.
هل هو على سبيل المثال نزولك من بيتك ورؤيتك لخطأَ وتجاهلك إياه وأنت قادر تماما على إستدراكه بالفعل أو القول؟
هل هو وصولك إلى عملك والسير في ركب الآخرين دون إتقان لعمل ودون القيام بالمهام الأساسية لهذا العمل ومنها ما يتعارض مباشرة مع شرع الله ولكن نتحجج بالنظام السائد؟
هل هو الإنفعال على الناس بغير حق لمجرد أنك إنسان عصبي؟
هل هو رؤيتك لمحتاج (لا أقصد متسولين الشوارع) وعندك حاجته وتجاهلته؟
هل هو أخذك لمكانين بينما تركن سيارتك؟
أم غلقك لكابينة المصعد بسرعة دون إكتراث بمن خلفك وأنت تسبقه بأجزاء من الثانية؟
هل هو الكذب أم البهتان أم الغيبة أم النميمة أم فضح الأسرار؟
مثل هذه الأعمال تدل على تبلد المشاعر والتركيز على المصالح الشخصية وتجنب أي مواجهات لإصلاح الوضع العام وعدم الإكتراث بالآخرين، وتدل أيضا على عدم وجود قدرة على التمييز بين ما يرضي الله وما يغضبه، ويدل على قلة ذكر الله لأن جزء من ذكر الله، كما أوضحت في موضوعات سابقة وسبقني فيه كثير من العلماء الواعين، هو أن تعرض جميع الأعمال والأحداث على عقلك لترى على أي شكل يكون فعل الأمر محببا إلى الله. والشخص الذي يتصف بهذه الصفات سينزلق فيما هو أكبر دون أن يدري وبكل سهولة لأن هناك عنصر إضافي وهو إعتياد المعصية الذي يمهد لك الطريق نفسيا إلى الإنزلاق في الكبائر قبل أن تشعر، فهو أمر يجعلك تعتاد فتتوقف قدرتك على إستشعار بُغض المعصية وبالتالي تقترب وتقترب حتى لا تشعر إلا وأنت غارق في كبيرة من الكبائر ولا تعرف ماذا تفعل لتخرج منها، ولا تجد إلا قدرتك الفعالة على التبرير فتقول “إن الله غفور رحيم” وتتناسى أنك من أدخلت نفسك في هذه الحفرة حين بدأت بالبحث عن تبرير لأفعالك لتشكل الدين على هواك بدلا من أن تشكل نفسك لتتأقلم على النظام الصحي الذي كفله لك شرع الله وأنزله سبحانه لينظم حياتك ويدفع بك إلى الأفضل.
وفي النهاية نجد أن اللمم في حقيقة الأمر ذنوب تخرج من إنسان مؤمن حيي من ربه حريص على دينه مثابر على عمل الخير أينما وجد طريقا له وينتج عنه تقصير في فعل أو عدم فعل شئ رغما عنه.
لذا احذر ارتكاب الذنوب مع سبق الإصرار والترصد والبحث عن تبرير لها في كتاب الله فمخرجك الوحيد هو التوبة والتوبة لها شروط ليس من ضمنها نية العودة إلى الذنب مهما كان صغيرا.
هذا الموضوع ليس تقنيطا من رحمة الله لأن الله أعلم بسر عباده وجهرهم ولكن هذا الموضوع لمن يظن أن الدين قانون سطحي يستطيع أن يطوعه على هواه لاجئا لما يظنه ثغرات ينفذ من خلالها.